آراؤهم

“عسكرة الثورة” كلمة حق يراد بها باطل

بعد أيام قلائل يكون قد مضى على الثورة السورية المباركة سنة كاملة وهي أشد مضاء وأصلب عوداً، قدم خلالها الشعب السوري أروع أمثلة التضحية والثبات والإصرار والفروسية، فالتاريخ على عمقه واتساعه لم يحدثنا بمثل هذه الثورة في حقبة سواء منها الدموية أو البيضاء.
قد يكون قدر الثورة السورية أن تكون الفريدة في هذا العالم ومثالا لا شبيه له، ستتناقل الأجيال حكايتها وتتعلم منها الدروس والعبر، وسيعكف الباحثون والإستراتيجيون والقادة العسكريون على التحليل والدراسة والتمحيص لسنوات، وستدرس فصولها ولا شك في أعرق الجامعات والأكاديميات العسكرية والسياسية والاجتماعية، وقد تتفوق من نواح عديدة – دون مبالغة – على دراسة ثورة الريف المغربي والثورة البلشفية والثورة الماوية والثورة الفرنسية والثورات المخملية التي عصفت بأوروبا الشيوعية، وأيضاً ثورات الربيع العربي التي سبقتها في كل من تونس وليبيا واليمن ومصر.

فكل هذه الثورات وجدت التبنّي والدعم والتأييد، وهذا ما لم يحصل للثورة السورية، وكل تلك الثورات كانت جيوش بلدانها محايدة أو منحازة إليها بشكل أو بآخر، إلا الجيش السوري فقد كان بكل ترسانته التسليحية وقوته النارية أداة طيعة بيد النظام، فكانت لهذه الثورة ملاحم يومية مع هذا الجيش وما يردفه من رجال أمن وشبيحة ومرتزقة، جاءت من خلف الحدود تشد من أزر الجلاد ليجهز على الضحية بشكل وحشي وبربري لم يسبقهم إليه أحد لا في الأولين ولا في الآخرين، ولعل صمود حي بابا عمرو في حمص لنحو شهر من قصف عشوائي بكل أسلحة الفتك والدمار التي يمتلكها النظام السوري المستبد، لدليل على بطولة وشجاعة القلة المدافعة عن الحي بأسلحتهم الخفيفة وذخيرتهم المحدودة، في حين أن هذا الجيش لم يصمد في مواجهة إسرائيل عام 1967 أكثر من ستة أيام، ولم يصمد أمامها في عام 1973 أكثر من عشرة أيام، أما عن فروسية هذه القلة فحدث ولا حرج، وقد غامروا في إخراج الصحفيين الغربيين الجرحى إلى الحدود اللبنانية معرضين انفسهم للموت والتهلكة.

في سنة من عمر هذه الثورة غاصت دبابات جيش سورية الخائن في دماء السوريين حتى فوهات المدافع، وداست جنازيرها أكوام البشر واقتلعت الشجر وفتتت الحجر، وجزت سكاكين البغاة رقاب الناس الآمنين في البيوت والمنازل، ومزقت مخالب ذئاب النظام المصاحف وداست بالنعال طهر بيوت العبادة، ودكت بقذائف راجمات صواريخها ومدافعها المدن والأحياء على ساكنيها، وقد منعتهم من الخروج منها أو الفرار إلى أماكن آمنة، وقد قطّعت أوصال هذه المدن وحفرت حولها الخنادق لتحول بين الأطفال والنساء والشيوخ والمعاقين أي سبيل للنجاة، وارتكبت الفواحش والبوائق في كل حي دخلته وفي كل بيت دنست اعتابه وفي كل مسجد هتكت حرمته، والعالم كله لا يفوته فرصة مشاهدة ما تتناقله شاشات القنوات الفضائية من فديوهات تروي بالصوت والصورة ما يجري في سورية وما يمارس من فظائع بحق شعبها الذي بات كاليتيم على مآدب هذا العالم اللئيم، الذي أشبع الشعب السوري بلاغات التهديد والوعيد وبيانات الشجب والتنديد والمبادرات حتى التخمة والغثيان.

وأخيراً أطل علينا كوفي أنان وهو في طريقه إلى دمشق محذراً من عسكرة الثورة واللجوء إلى الخيار العسكري، دون أن يوجه كلمة لوم واحدة إلى النظام السوري الذي هو من يدفع الثورة إلى العسكرة بقمعه الوحشي للمتظاهرين السلميين المطالبين بالحرية والكرامة، أويلوح له بأن كل الخيارات مفتوحة للتعامل معه إن لم يكف عن هذه السياسة العمياء المجنونة، ويتوقف عن قتل شعبه على مدار سنة كاملة، وهو يتنقل بآلته العسكرية الجهنمية من مدينة إلى مدينة ومن بلدة إلى بلدة ومن قرية إلى قرية في طول البلاد وعرضها، زارعاً الرعب والخوف، مخلفاً الأرامل واليتامى والثكالى والمهجرين والنازحين والخراب والدمار.

التحذير من عسكرة الثورة كلمة حق يراد بها باطل، فقد انتظر الشعب السوري من العالم أن يتحرك لكف يد النظام عن ذبحه ونحره لنحو سنة دون أن يفعل بحجج واهية ومبررات واهنة لا يصدقها عاقل أو يقبل بها مجنون، وكان لابد للشعب السوري أن يحسم أمره ويتخذ قراره ويفوت على النظام منحه المزيد من الفرص والمهل ليرتكب بحق الشعب السوري مزيداً من القتل وارتكاب الجرائم، وقد جزت سكينه الرقاب وهتكت مخالبه الأعراض والمحرمات، ولم يعد أمام الشعب السوري إلا مقارعة هذا النظام بما يتيسر له من سلاح وعتاد دفاعاً عن شرفه وعرضه وماله وقد تساوى عنده الموت والحياة، متمثلاً قول الشاعر:
فمن لم يمت بالسيف مات بغيره.. تعددت الأسباب والموت واحد!!