فن وثقافة

"قصة قصيرة "
“الفــــــــرّيدة ” حسن المسعودي

سألها   
ما اسمك ؟ 
أجابت :  وحيدة  
 فقال   :  كلنا وحيدون يا وحيدة . 
وهاهو المسعودي يهطل غيمة من جفاف “الفريدة ” حين هروب من مدن الملح والظمأ الإنساني والعتب الكبير … وكلنا نحتاج الى وقفة تمطر الحزن عند الفريدة . 
 المدن التي لم تهدهد له الروح التعبة , روحه العذبة التي استلت شدة البأس من الفلذات وعيون رفيقة الدرب … الفلذات الذين يكسرون الظهر وليالي الصبر تجر الليالي ياكاتب. 
يالمسعودي الأخاذ بصمتك بحزنك وإشراقة النفس البهية  كلنا نحتاج إلى هروب إلى فريدة تشبه فرديتك لندرك فجيعة المدن وما حدث .
لطالما كان وجهك يحمل في ملامحه الأحلام المؤجلة … وتختزل في تهذيبك الجم خيباتها .
ذات “خبرية” حين لامس وجهك صقيع القطب الشمالي , قلت لفرحتي طوبى لمدن ترحب بخطاك في غاباتها  الندية بالإنسانية علها تقطف منك القصيدة التي أخفيتها عن الجميع ولم تزل … وإن باح بها من قبلك العلي الصديق .
يارفيق الحرف فريدتك تقرع اجراس الخوف … هل أحلامنا باتت بضائع الموت ؟.
 هل أحلامنا المؤجلة سترحل في ثنايا البياض ودمعة الأحباب .
يالمسعودي رجعت إلى مدينتك الأولى وكأنك تلاعب نار لعنة “كافافيس” … هل تحمل مدينتك وراء ظهرك أينما حللت؟ 
… إلى عوالم 
“الفــــــــرّيدة “
 حسن المسعودي
“قصة قصيرة “

تركتها صغيراً لم أتخط التاسعة، وأعود إليها الآن وقد شارفت الأربعين، إنها الفريدة ، البقعة الصحراوية القابعة في الجنوب الغربي، لم تتغير هيئتها الشاحبة كثيراً، ثلاثون عاماً من الغياب والعذاب لم تترك أثراً على تضاريسها، هنا التلال التي استوعبت يأسنا… هنا السفوح التي مارسنا فيها طفولة بائسة، وجبال الرمل التي دفنا فيها أسرارنا البريئة وأحلامنا المهشمة.
أما لماذا سميت بالفريدة، فلكونها الوحيدة من بين البقاع التي لا تسقط عليها الأمطار إلا نادراً، وإن سقطت فإنها لا تترك أثرا على أرضها الصخرية الجافة، وهو ما يجبر الرعاة في مواسم الاخضرار على النزوح بقطعانهم نحو البراري البعيدة… ولأنها تفردت عن غيرها من مناطق الصحراء بهذا الوضع المناخي فقد أطلق عليها البدو الرحل ذلك الاسم، كان ذلك منذ عشرات السنين، وقيل إنها عرفت بهذا الوصف منذ القرون الماضية حين كانت الغارات والغزوات بين القبائل شرطين لازمين للاستمرار على قيد الحياة.
أعود إليها الآن هارباً من أعراف المدينة الخانقة ومن قوانينها المجحفة، أريد التحرر من واقع تلوثه المادة وتخضع العلاقات الإنسانية فيه لمنطق الإقصاء، أجيئها حاملاً كل أزماتي المؤجلة ومدفوعاً برغبة العيش من غير أوراق رسمية ولا بطاقات شخصية ولا جواز سفر،  لكنها بدت لي ساكنة مستكينة على غير عادتها وهي التي تكاد العواصف فيها لا تتوقف طوال أيام الصيف، تثور زوابعها فتأتي محملة بالحصى الناعم وبالأتربة التي تتجمع بكثافة لتشكل حواجز طويلة من الكثبان في محيط المنازل المبنية من الخشب والصفيح وفي أفنيتها.
 فيضطر الأهالي  صغاراً وكباراً إلى تحمل مشقة التخلص منها إما بطلب الجرافات والشاحنات، وإما باستخدام الدلاء المعدنية وآنيات الطعام، يحدث ذلك في شهري يوليو وأغسطس تحديداً.
 وفي هذين الشهرين كما في بقية أشهر الصيف يكون الجفاف والظمأ هما العنوان المختصر للحياة على ظهر الفريدة ، كما تكون رغبة البقاء مقرونة في الأغلب بخوف الكثيرين على مواشيهم من الهلاك، عدا ذلك فإن الحصول على الماء لغير أغراض الشرب يشبه فعل المستحيل، فالحاكم باسم القبيلة والمتصرف بشؤونها كان يمنع الأهالي من الوصول إلى الصهاريج الموزعة بأعداد ضئيلة بين المنازل ولا يأبه لتوسلات بعضهم وبحاجتهم الماسة إلى الاستحمام،  فإذا أوشكت أجسادهم أن تتعفن أذن لهم بذلك.
 أما في الشتاء فإن كل شيء في هذا المكان يتحول إلى قطعة من جليد.
على هذا النحو كانت تسير حياة البشر في ذلك المكان المنعزل، وهي حياة أقرب في تفاصيلها إلى الموت البطيء المتكرر، ومع ذلك فإن الناس ألفوا قساوة العيش وتآلفوا مع قوانين الصحراء واستسلموا لشروطها، ولو قـُـدّر لهم لما رحلوا عنها، غير أنهم أرغموا على ذلك حينما تواصلت الإنذارات الموجهة إليهم من بلدية المدينة تطالبهم بإخلاء منازلهم بدعوى أن المنطقة ستتحول عما قريب ميداناً للجيش والمناورات العسكرية، ثم راحت تهدم بالقوة منازل الذين أصروا على البقاء، وبعد أشهر قليلة مضت على هذه الحادثة خلت الفريدة من كل ساكنيها.
***
أوقفت سيارتي في واد غير سحيق تتوزع على جانبيه وفي جوفه بعض نباتات العرفج والقميز، ثم ترجلت صاعداً إلى أعلاه جهة الغرب وقدرت أن يكون هذا المكان هو الأخير الذي انتهت عنده رحلة الشتات الجماعي، وبدأت من خلاله مهمة البحث عن ذواتنا الإنسانية.
هذه هي الفريدة إذن، خيل لي أنها تراقبني… تخاطبني… تؤنبني:
كبرت يا ولد وأصبحت نظيفاً… أراك تنتعل حذاء ثميناً وتركب سيارة جديدة وتغطي عينيك بنظارة سوداء بعد سنوات الظمأ والجوع والجفاف… ماذا فعلت بك المدينة؟
قلت: فعلت بي وتوشك أن تفعل المزيد، قتلتني بضجيجها الذي لا يسكت… أبواق السيارات هناك لا تكف عن الهدير، عوادمها تملأ السماء بدخانها القاتل، وقد جئتك يا أمنا الصحراء ألتمس السكينة وأطلب البقاء والنقاء… جئت أبحث عن الخلاص من عالم تسوده المثل المتعاكسة وتنتشر في فضائه قيم التناقض والجفاء، في المدينة لا مكان لغير الموتورين والسفهاء والدجالين وأولئك الذين يعتقدون أن الحياة خلقت لهم وحدهم، بل حتى البسطاء الذين نزحوا إليها من الأودية وتوزعوا في أحيائها تطبعوا بطابع الازدراء لماضيهم.
قالت: أين هم رفقاؤك ومحبوك؟
أجبتها: منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر… أبوسعد خسر وظيفته وظل لسنوات يبحث عن عمل بديل دون فائدة حتى تسرب إليه المرض فمات وهو عاطل عن العمل وعاطل عن الأمل أيضاً، راح ضحية الخذلان والنسيان… أما خالد فقد ارتحل إلى ديار الغربة، ورغم أننا رجوناه ألا يفعل فإنه أصر على الرحيل وهو يقول: «أريد أن أثبت لهذا العالم أنني كائن حي»… فرحان استسلم لواقعه المر وتزوج إحدى قريباته وأنجب منها ثلاثة أولاد ورثوا عنه الشؤم وسوء الطالع … وكل الذين كانوا هنا نالوا نصيبهم من الشتات وتقاسموا بعضُهم مع بعض مساحة الألم التي أوجبتها عليهم ضرورات التمدن، توزعوا في اتجاهات الضياع وحسبوا أن المدينة ستستقبلهم استقبال الفاتحين وتكون لهم أماً جديدة عوضاً عنك يا أمنا الصحراء.
قالت: آباؤكم الذين رحلوا من سنين لم يتركوا لكم سوى مشقة البقاء وعبء الفجيعة، ذلك أن حياتهم كانت بلا تاريخ، ومن حياته بلا تاريخ تتخلى عنه الأيام… تتركه في أودية النسيان فريسة لليأس والبؤس، إن كنتم قادرين على استرجاع الزمن فافعلوا وإلا فامكثوا في مدينتكم كالغرباء أو كعابري سبيل.