أقلامهم

صالح الشايجي : «جلال عامر»استراح وأشقانا… «وفينا مالك» لاترتعد ولاتخاف

الحسناء والشيخ.. والمغني والوزير

صالح الشايجي 

الحديقة الطيّبة.. وحارسها الأمين..
واقع الفنانين في مصر وباكستان والكويت..
فنانة باكستانية.. تحرج متشدداً
كيف ينظر الوزير الكويتي للفنانين؟
«جلال عامر».. استراح هو.. وأشقانا نحن..
 
كان وكنت
كان لي اسم ورسم وهوية..
وأهل وناس..
وحياة مرسومة الأيام..
مزركشة لياليها..
****
كنت أقرأ وأكتب..
أرسم وأمحو..
أضحك وأفرح وأبكي..
****
كانت لي أمّ كحديقة طيبة..
وأب يحرس الحديقة..
ووطنٌ كان وطنا..
وكان بيتا كبيرا..
مشرع الأبواب والقلب..
ولي فيه ذكريات..
وأصدقاء.. وأعداء طيبون..
****
كانت لي أحلامي المرسومة..
وآمالي المكتوبة..
وصلواتي الصامتة..
وسدرةٌ ونخلة..
ومواسم قطاف..
وتمرات يانعات..
وأخر عجفاوات..
وندى وصبحٌ..
وزهور تضحك في أوانيها..
****
كان ذلك..
وذلك كان..
و«كان».. من عمل الشيطان

الوزير «اللي ما أدري شسمه»
احترام الإنسان لمهنته يدخل ضمن احترامه لذاته، ومن يحترم ذاته يحترمه الآخرون.. وهذه قاعدة عرفها الخلق منذ قديمهم وسالف عصورهم، وليست من بنات أفكاري ولا من بنات العصر الحديث.. بل هي نبتات نبتت وتبرعمت وكبرت وفاح أريجها على مدى أزمنة ممتدة منذ عصور ودهور لا تُعدّ..
والفن بمختلف ألوانه وتصنيفاته هو مهنة لكثير من الناس يمتدّون على مدى الجغرافيا الأرضية ولا تخلو منهم قرية ما أو مدينة من المدن ولا دولة من الدول، وهناك مقولة تقول إن الإنسان فنان بطبعه.. والفن يشكل جزءا من نفس أي إنسان، وهو الذي ساهم في تطوير الحياة وتجميلها وخفف من وحشة الطبيعة وأنسن توحشها، ولولاه لصار الإنسان وحشيّ الطبع والشكل والسلوك.. أو ربما صار وحشا كاملا..بسبب توحش الحياة من حوله..
والفن هو الباعث على البهجة التي لا يمكن للإنسان العيش بدونها.. وهو الذي يعمل على طمأنة النفس وتهذيبها.
وهناك بعض الناس يظنون أنهم يرفضون الفن ولا يدرون أنهم يعيشون بالفن الذي يجري فيهم مجرى الدماء في عروقهم.. ولكن لأنهم لم يفتقدوه ولأنه صار من اعتياديات الحياة ومن طبيعتها فهم لا يحسون بوجوده ولكن لو فقدوه فإنهم حينذاك سيحسون بأهميته وبضرورته في حياتهم.. لأن من طبيعة الإنسان التكيف والتطبع والتآلف مع ما ألفه في الحياة واعتاده، حتى انه لا يكاد يحس بضرورته بسبب التآلف الاعتيادي معه.. ولكن في غياب ذلك الشيء سيحس بقيمته وأهميته في حياته.
****
ولقد سقت هذه المقدمة توطئة لما أريد الكتابة عنه بخصوص الفن.. حيث إنّ الفن عرضة على الدوام للهجوم والتحقير والإهانة من قبل بعض الأقوام الذين في نفوسهم غلظة وفي قلوبهم شوك.. وبالذات في أيامنا هذه التي نحصد فيها ثمار «الربيع العربي».. وأينع تلك الثمار نراها في هيمنة الإسلاميين على القرار في دول هذا «الربيع».. وبدء الإسلاميين بشحذ سيوفهم والتلويح بها وضاءة بارقة كثغر «عبلة» في عيني «عنترة».. لمحاربة الفن وأهله.. على اعتبار حرمة الفن وفرض محاربته وإقامة الحد على كل صداحة فواحة في حديقة الغناء.. وعلى كل مياسة ذات قد مليح هزّاز.. يهز معه أبدان الناظرين وترقص معه عيونهم الزاحفة نحو ذاك البدن المهزوز..
وقبل البدء بشحذ السيوف لحز الرؤوس.. حمل الهراوات لتكسير المعازف.. ومن ثم بتر الأيادي العازفة عليها..
وبالطبع وطبعا وبكل تأكيد لابدّ أن تكون المرأة هي الحلقة الأضعف والأوْلى بشن الحرب وإقامة الحد ودق العنق لأنها هي الفتنة وهي الطريق الوحيد إلى النار.. وإلى الفساد في الدنيا.. ولولاها لاستقام الناس وآمنت قلوبهم وهدأت نفوسهم وراحوا إلى الجنة زرافات وصفوفا في إثر صفوف.. ولكن المرأة (الملعونة) تغويهم وتضلهم عن سبيل الرشاد وتزيّن لهم الدنيا وتزرع مباهجها.. لذلك وقد استقر الأمر لأهل الإسلام فلابد لهم من اقتلاع هذه النبتة الشيطانية وحرقها على ملأ من الرجال الأتقياء الأنقياء..
****
في مصر ـ ولأن الفن فيها أصيل بأصالة النيل فيها وأصالة أبي الهول وأهراماته الثلاثة ـ لم يُمكّنوا أولئك المتشددين.. فانبرت لهم العاملات بحقل الفن قبل العاملين فيه وراحت ألسنتهن تلعلع بالتحدي ورفع راية العصيان المبكر.. على اعتبار أن الله ولي القلوب.. وليس لأحد ـ أيّا من يكن ـ من أمر على الخلق.. ومفاتيح الجنة والنار بيد الله جل وعلا.. ولم يسلمها لا للإخوان المسلمين ولا لحزب النور السلفي ولا لأي فصيل عميل أنتجته دور المخابرات الغربية أو الإسرائيلية.. وألبسته العمامة «البنلادنية» وحقنته بإسرائيليات تعرف وحدها مكمنها والرفوف المصفوفة عليها.. حتى يجوس في ديار المسلمين ويعتلي عروشها ويذل أهلها ويعود بها القهقرى ويزين لها العيش تحت الأرض.. بينما تعيش رؤوس هذه الفرق أهنأ العيش وأنعمه وألذه.. في قصورها.. تتقلب على رياش من ديباج وحرير.. ويغرفون من شهد ما ملكت أيمانهم..
****
وفي باكستان تصدت ممثلة باكستانية مليحة.. لواحد من المتشددين فصرعته بحججها وقدرتها على فهم الإسلام وإتيانها بحجج بيّنات كفيلة بصرع ذلك المتطفل المتجسس على حياة الناس والتدخل في خصوصياتهم بحجة حماية الأخلاق والواجب الشرعي الذي يجيز له ذلك..
وكان مما قالته تلك المليحة واسمها «فينا مالك» لمن كان يناظرها تلفزيونيا وهو خارج الاستوديو.. إن الإسلام أباح لك النظرة الأولى وأنت ارتكبت معصية بتكرار النظر إلي.. ولما قال لها أنا سمعت ولم أنظر إليك..ردت عليه بما أفحمه وألجمه قائلة وكيف تبني حكمك وأنت «المفتي» على إشاعات وأقاويل؟! وراحت بصوت واثق وروح معنوية عالية.. تعدد له أخطاءه ومخالفاته الشرعية.. مبينة أن الإسلام دين عظيم ودين سلام وأراكم تُنظّرون للقتل وتبيحون الدمار وتدعون إلى التفجيرات! أليس التفاتكم لتلك الأمور وتحريمها وتجريمها أولى من متابعة امرأة وماذا لبست وماذا خلعت؟!
قالت كل ذلك وأكثر غير هيابة وغير مبالية ولا مرتعدة ولا خائفة.. وهكذا هم الأحرار دائما لا يرتعدون ولا يخافون حتى وإن كان من يخاطبهم يحمل سوط الدين ليجلدهم به!
****
أقول ما أقول وعرجت فيما قلت على مصر ثم باكستان لأصل إلى مربط الفرس «الكويتي» ـ المربط وليس الفرس ـ فهذه البلاد التي «نصلّي على النبي عند ذكرها».. لأنّ «فيها اللي نبي» ـ كما قال قائلها ـ يتعرض فيها الفن والفنانون أو كما أسميتهم في مقال سابق لي «رياحين البلد المطحونة».. إلى استهانة وتحقير واستكبار وتعال وفوقية.. وهم صم بكم.. لا يردون سهام الألسنة الطائشة التي تتناولهم ساعة الإفطار وعند الغبوق..تهين وتشين وتعيب وتحط من قدرهم.. وهم في خوف يرتعدون ويؤثرون السلامة.. مصدقين شائنيهم وشانئيهم.. وكأنهم النمل المحبوس..
وقبل أعوام وحين ردّت الدولة جمائل بعض الفنانين ممن عرفهم الناس باسم الكويت وقامت الكويت بتجنيسهم.. انبرى بعض أولئك.. ساخرين «متحلطمين متبرطمين» محتجين على تجنيس «الطبالين الزمارين» ـ كما يسمون أهل الفن..
والغريب.. أن الفن وهو أعظم إنتاجات البشرية.. ينظر البعض إليه بدونية وتعفف.. وأذكر أنه في فترة الاحتلال العراقي لبلادنا.. أن أحد وزراء تلك الفترة.. أشار إلى «واحد مغني ما أدري شسمه» ـ حسب تعبيره ـ رغم أن هذا «المغني الذي مايدري شنهو اسمه».. فنان معروف على مستوى دنيا العرب.. وما قدمه للكويت من خدمة من خلال فنه أهم مما قدمه ذلك الوزير «اللي ما أدري شسمه» والذي طوته الأيام بينما «المغني اللي ما يدري شسمه».. نجم يعلو في الآفاق.. ولكنها لغة الاستعلاء والتكبر والتي تلزم هذا الوزير الهزبر الفطحل.. بأن يتعالى على الفنانين حتى لاتسوءه سيئة وتشينه شائنة وتعيبه عائبة..
****
هكذا تربى الخلق هنا.. على الازدواجية والباطنية والجبن.. وإخفاء الحقيقة وإظهار المنافقة والتزلف.. من باب الترفع واهتبال الضوء لنفسه من خلال ازدراء من هم أهم منه وأرفع قدرا وأنفع للأرض وأهلها..
ولو كان في الكويت فنانون بعدد وزرائها لكانت الكويت في قمة البلدان وفي أعلى مكان..ولكن الفنان لا يصنع..لأنه خلق فطري بينما الوزراء والسياسيون.. يملأون الطرقات والحوانيت والأزقة والميادين وحتى غافلات البيوت!
ويتحمّل الفنانون في الكويت جزءا من مسؤولية إهانتهم لأنهم لا يتصدون بالرد على من يستخف بدورهم وبمهنتهم.. مثلما يفعل زملاؤهم في مصر.. أو مثلما فعلت تلك الحسناء الباكستانية الفائقة الجمال والتي لم ترهبها شخصية من كان يناظرها.. وردت حججه الواهية بحجج أنصع من باطن كفها..حتى أسكتته وغدا بائسا حسيرا وكأنه قد صفد وحمل أسفارا وألجم لجم البغال فأدبر مدحورا مذموما.
****
جلال القلب العامر
جلال عامر نهر ضحك ثري.. وبحيرة سخرية لا تتبخر..
ولد كاتبا.. في زمن الكآبة.. وبعدما عقمت الكتابة وجف رحمها.. وتجاوزت سن الأمل بلوغا إلى سن اليأس.. وبعدما انصرف الخلق وراء سواد ينشدون فيه بياض آخرتهم..
لا أدري شيئا عن بداياته.. ومتى خط حرفه الأول ومتى علّقه أمام عيون السابلة..
اكتشفته في سنوات الموات..وشرعت في قراءته.. متوسدا ذاكرتي الخنساء المليئة البكاء والدمع المحزون..ففرّج كربي بأحزانه الضاحكة..فقلت في سري وفي علني «الحمد لله الذي بشرني بمن اشترى أحزاني بكلمات لا تبور»..
لقد سخر بما ليس فيه الكفاية.. لا تقصيرا بسخريته ولا لقلة فيها.. ولكن لأن الواقع والحياة التي نعيشها لا تكفيها زكائب سخرية تنهال عليها باللحظة والثانية والدقيقة والساعة.. ليلا ونهارا وبعرض متواصل لا ينبتّ ولا ينقطع.. أو حسب قولة من قال «أربع وعشرين على أربع وعشرين».
عاش حتى رأى الموت بعينيه فمات..
ومات لأنه رأى الموت أمامه..فمات..
لم يَكذبْه قلبه.. بل صدق معه في الموت.. مثلما صدق معه في الحياة..
مات لأنه رأى المصريين يقتلون المصريين.. عند ذاك آذنت لحظة الصدق في القلب فرنت أجراسه.. واعتور القلب الصدوق..ولم يطق صبرا.. بعدما رأى الموت المصري المصري.. بأمّ عينيه.. زلزل القلب وتزلزل..وارتجف ووجل وسار نهر الحزن الضاحك..
ثم كانت النهاية، ومات جلال عامر الصادق في رقته ومشاعره وأحاسيسه.. والذي لم يتحمل قتل المصري لأخيه المصري في زمن الثورة البيضاء التي جاءت لترفع عن كاهليهما أثقال الظلم المزمن..
إذن كان جلال عامر صادقا في مشاعره وأحاسيسه المرهفة ولم يكن سواقا لها في سوق الكتابة ولم يكن ملبيا لمتطلبات الكتابة.. لا لم يكن كذلك.. كان صادق القلب والإحساس والشعور..
إنسان عفوي طاهر القلب نقي السريرة..
لم أر قلب جلال عامر ولكنني على يقين أنه أشد بياضا من شعر رأسه..
كان قلبا من قطن مصري أصيل..
هنيئا لقلب جلال عامر بالموت.. لأنه لو استمر حيا فليس له.. سوى المزيد من الهموم..وسيعيش هذا القلب متعبا منهكا محزونا..
بموته أراح قلبه.. وبدنه.. وأشقانا.. أشقى قراءه.. وعشاق سخريته الباكية التي تفضي إلى الموت المبكر!