سبر القوافي

زينب عساف … “بواب الذاكرة الفظ”

قصائد مختارة من ديوان “بواب الذاكرة الفظ” 

للشاعرة اللبنانية زينب عساف .
 أوردة
أنا الفراغ الذي احتلّه جسدٌ يوماً
لو رأيتُ نسختي الأولى لما احتجت إلى الموت
مذ قطعت أوردة النوم صرت غيمة
لا تمطر
إلا على غسيلٍ يجفّ
مذ قطعتُ حبال النوم
لم يعد يربطني بالفراش
سوى حبل أحلامي الطويل
ظننت للمرّة الألف أني سأستيقظ فجأة من حياتي
لكني أدركت في الثالثة عشرة
أني إلى الأبد سأحزن
أردت أمّاً لا يؤلم بكاؤها
وأبناء لا يبكون أبداً
فقط قالوا لي: لستِ رجلاً
ولم يخبروني أكثر
كيف تركت طفولتي ومضيت؟
كان يمكن لفستاني الأحمر أن يكبر معي
السنوات المتدافعة أبعدتني كثيراً
يجب أن أعود الآن يا طفولتي:
ثمة فرض مدرسيّ لم أدوّن اسمي عليه.
أمومة
الرغبة في تليين أرصفة هذا العالم
في جعلها أسرّة
في إقفال كفٍّ مستجدية
بترها، ملئها
الرغبة في تدوير هذه الكرة أكثر
أمومة أمومة أمومة
كيف تتحمّلين أيتها الأرض أقدام الأمّهات؟
كيف لا تجهضين يا بطناً منتفخة؟
يوماً ما ستهوين من خلف ظهورنا
يا نجمتنا البائسة
ستصابين بالغثيان لدورانك المستمرّ
مسقطةً من جيوبك ناطحات سحابنا.
أقفال
إنزعوا الأقفال
ذاكرتي عمياء وغير لطيفة
ها إني أنزف أمّي
وأبي
وإخوتي الصغار أبداً
لم ينقضِ الوقت
فقط هربت من طفولتي
واستعجلت كسوفها
لم ينقضِ الوقت
لكني بيديّ هاتين هززت أضرحة الأولياء
حتى خرجوا ناقمين
بيديّ هاتين مزّقت وجهي
في مرايا الحانات
سمعتُ عن مفاتيح
مدفونةٍ تحت اللسان،
عن قلوب عالقة في شرايينها،
وصلت متأخّرة
– دائماً أصل متأخّرة –

عن مساءات
يمكن للضحكة أن تكون تامّة فيها،
عن نظرات
تقفل على الغرباء باب البيت،
لشدّة غبائي
لم أصدّق أن موجة تطرد خطوتي
وأن الزهرة التي نبتت في كفّي
تفتح لك عينيها
وأن الله، حتى الله،
نسي حفرتي.

طلقة
كانت طلقة هائلة تلك التي دفعتني إلى الخروج
لم يجدِني التشبّث بجدار الرحم
هراء ما أكتب يا عالم
كفردة حذائك التي حُشرت فيها
كآخر شهقة للقتيل
كحنق الموتى من مرورنا المستمرّ فوق عظامهم
كثورة خرافٍ على باب مسلخ
أنا نظرة النساء المنتحرات
اللواتي أضرمن النار في جلابيبهن
اللواتي ابتلعن السمّ
ومتنَ ببطء حياةٍ طويلةٍ.
بعد الظهر
في الليل
حين تعجز عن النوم
يصبح الوقت جداراً
آه كم أكره نفاد الوقت
انتهاء بعد الظهر
والدخول في العتمة وأنا غير مستعدّة
متروكة خارج الزمن
لا أستطيع أن أُحدث فيه أي حفرة
كل شيء يحدث على شاشة تلفزيون
يبثّ في سهرة يوم عطلة مضجرة
يا قلبي العجوز
أما زال هناك عشاق يرتدون ربطة عنق
ويحضرون باقة ورد في اللقاء الأخير
بيتنا واسعٌ ولا تدخله الريح
مدننا كثيرة وأحلامنا بلا عجلات
ووجهك غائر كخنجرٍ في بئر
فتحت باب سيّارة أجرة ودلفنا إلى عالمٍ آخر
لا تتركني أسير وحدي
نظرات الغرباء نزقة
ولستُ من الصنف الذي يعود.
نوم
تستيقظ صباحاً
وتناضل كي تنتزع رأسك
من حفرة النوم العميقة
ربما تخلّف وراءك حياتك الحقيقية
ربما تستيقظ إلى نومك
آه كم كلمة أوقعت في الفراغ الفاصل بين نوم ويقظة
كانت لتنقذ حياتي بالتأكيد
آه كم سعدت بجرّ القدر من رسنه
قبل أن أسمع صوت المنبّه
أجرع ليترات من الماء
وحين أقنع نفسي قبل الفجر بأن النوم باب يُفتح
يرنّ على بلاط الغرفة صوت مفتاح.
لا رغبة لي في تدمير العالم
1
غاضباً كان
وكنتُ أهذي بأسماء علم
لقرى لا تصلها الشمس
هذا البكاء أحدب
لا يصلني بحزني
صرير عالٍ 
لأبواب ذاكرتي المخلّعة
خفافيش معمّرة
تخبط رؤوسها بالزجاج
وتسقط 
مغشيّاً عليها كآثار أقدام
هذه اللهجة،
هذا التجويف البربريّ للحروف
علامات ظهور لحزني المنتظَر
لم ينم أحد ليلتها
الكلّ كَمَن للكلّ
آه يا شمسي العالية،
أيتها السيّدة،
مدّي إلينا بصركِ
نذهبْ إلى أشغالنا
أو نحمل دمعة في حقيبة ظهر
لقد أتلفت عينيّ بالرؤية
ورأسي بالحكاية:
الحكاية التي ماتت حين 
جفّ فم جدّتي في قبرها. 
2
للتوّ مرّ أمامي رامبو
بوجهه المقيت 
وعينيه الزائغتين
لم أفهم شيئاً مما قرأتُ
فريدا كاهلو تدقّ عظامي
بأرجل من حديد
وأمّي تسأل
عن موعد عودتي.
3
بفارغ الصبر أنتظر تلك العطلة:
مطار يفضي إلى داخلي
قبر يفتح ذراعيه بلهفة
ما أكبرك أيها النهر
اجرفْ كريّاتي الحمراء
أودّ أن تشطف دمي السام
كالعلّيق على ضفتيك.
4
الآن تصفّقون؟
يا لتلك الولادة الغريبة
لم أشعر يوماً
بأمومة أيديكم
لقد سقطتُ وحدي
من إحدى الأرحام
لم تمتدّ يد لتقطفني
عيناي فارغتان
ولا رغبة لي 
في تدمير العالم.
5
ما ذنبهما إن كانا والديّ
ولم أكن ابنة أحد؟
أحلم بسكين 
أقطع به الصلات كلّها
لكن حبال السرّة
نباتاتي المتوحشة.
6
يجب أن يصمت العالم الآن
ليتيح لي الشعور بالغربة
هلاّ تتوقّفون عن الصلاة
عن المواليد الجدد
عن تربيت هذا العالم بنعالكم
أنا مصابة بالدوار
وهذا الرجل ينظر إليَّ بنزق
يا للهول
الكلمة التي
فتحت باب الجحيم 
لا تعرف عنها شيئاً.
7
لم أجرؤ على إخبار الجدّة
أني وحشة الفراغ بين سرير وحائط
وأني في كلّ حكاياتها
لم أخف إلا من نفسي.
8
غير مهمّ
سأقول الآن
وأعلّق دمعتي في الخزانة
لن أستعمل المجفّف الكهربائي
مع الوقت 
يصنع جرحي زواياه
مع الوقت أزداد هشاشة
اللعنة عليك أيتها البلاد:
الآن تطالبينني بالوفاء!
9
هذا ما حدث:
أعمدة بعلبك قفص صدريّ
والمجرّات تُجفَّف فوق سطوح الجوعى
ما ذنبي إن انهمر الماء في الدم
إن الأرض أنبتت شهداء وأعمدة كهرباء
هل تجدن قبراً هنا؟
لديكنّ أقلّ من دقيقة
في نشرة الأخبار
توقفن عن الندب في رأسي
نجمة المجوس 
تدلّني إلى قبري
وجدّتي الميتة
تسأل عن موعد الصلاة
وتطالب بوردة للرخام
العمياء تطحن الحصى للعيون
هناك،
حيث تراب – بين دمَّين – 
يرقد أئمّة لا أعرفهم.
10
حين غفوتُ أفكارُها آلمتني 
قالت شيئاً عن
توقيتي الخاصّ 
عن طائرات ورقيّة
لم أفهم لكنّي حزنتُ
يدها لن تنفع
حتى لو غسلت الصحون ألف مرّة
ثمّة نهدان يكبران كلّ يوم
أمام أعينهم:
لن يغفروا لها أبداً.
11
النعاس صار غضباً
لن يسعني إنكارهم
والهواء ينقص أكثر
فأكثر
أسرعي أيتها الشمس
هلاّ تتربعين في ظهيرتك
هلاّ تجفّفين آثار خطواتهم
على طبلة أذني
العصفور الذي أضاع التوقيت
زقزق فجراً.
12
سأترك للأسود
أن يهجر شعري إلى ثيابي
صحراء من الوقت تمتدّ أمامي
ورحمي غير دافئة
كم أرغب بحرق البنطلونات الرجّالية
المعلّقة في ذاكرتي.
13
أريد رؤية أسنانك بقوّة
رغبة في رفع حاجبيك
كيف أنقل هذا الإحساس الزيتيّ؟
شمس كازابلانكا قويّة جداً
حتى في السابعة والنصف
بكيتُ الليلة أيضاً
وفي هذه الغرفة الفخمة
أفكاري تنهمر كالرصاص
تقتل مَن حولي 
يبدو أنني الشيء الوحيد المتواضع هنا 
ستصحبني إلى المغرب يوماً
وسنحمل حقائب كبيرة 
كالعائلات السعيدة في المطارات
يا طفلي
الذي ظلمه الحمض النووي اللعين.
14
سوف يأتي ذلك اليوم
يا إلهي المتعَب
لن أدمع صباحاً
وبوخزة الضمير لن أشعر
يوم أملس كجلد مراهقة
كفكرة حلقتُ رجليها للتوّ
قُدْ قليلاً يا إلهي
خذ المقود عنّي
أحتاج تصديق ألوهتك.
15
لم أكن سوى بكماء
وقالوا أحجب الكلام
وأبتلع صوتي
خافوا مني
فحفروا في جلدهم
يا كلماتي 
يا قِرَدتي المعلّقة بحبالي الصوتية
لو تعرفين يوماً طريق الخروج.
16
لن أخبر أحداً أن الذي 
يسقط في المرايا وجهي
وأن اليد الممدودة 
المستقبلة مسمارها يدي 
وأن رؤوس المارّة مضحكة
والمطر أشواك صغيرة:
أعدكَ أن أضحك في الصور المقبلة.
17
على هذا السرير 
فرشتُ من الأحلام
ما يكفي لردم مدينة
ووأد طفلة
لكن التذاكر ووجوه المسافرين
قادتني إلى الاتجاه الخطأ
اقتربي أيتها القارّات العجائز
ألا تشعرين بالبرد؟
18
حياتي الممتدّة على هذه الأرصفة
زرعتها خطوة خطوة
تبعتها إلى المتاحف 
والقبور
وإلى غرف خطفناها 
من أرجل المارّة
يخطر لي
ألا أقوم بشيء
فقط 
أسدّ أذنيّ
فقط
أقطع رأس هذه الفكرة.
19
كلمة ابتلعتها خطأ
والعقاب حياة كاملة
ما نفع قصيدة
لا نموت بعدها؟
فلّين
كان يجب أن أقفل
ثقوب رأسي بفلّين النبيذ
أن أقتل أفكاري قبل أن تحفر أعشاشها فيه
أنا هنا منذ ما يكفي لأصير مجنونة
جعبة أحزاني دافئة
وليس لديّ أي خطّة
ما أقبح أن أغمض عينيّ الآن
ولا أحلم بألف عام.
أدراج
جمعتْ القلادات والأقراط في درج
ودموعها في درج آخر
كانت تفرغ الدرجين كلما زرتها
المرأة المستديرة الأطراف
بعدما هجرها
انتسبت إلى نادٍ رياضي
وفي الغرفة نفسها
حيث ترتاح كيلوغرامتها الإضافيّة
ترتفع صورة رجل يبتسم.
مسام
لم يعجبني إلا المجانين يا هنري ميللر
أكره الناس الذين يبدون دائماً بخير:
مسام نظيفة
ابتسامات بلهاء
في مصحّ عقليّ شاسع
يمتدّ
من نيويورك إلى البقاع.
شرفة
ها هو الصيف ينقر زجاج النافذة
وذنب الشتاء الطويل
يلتفّ كسجّادة
ها هم سكّان الطبقة العليا
يغطّون في نومهم الهانئ تحت سدرة المنتهى
وسكّان الطبقات السفلية
يلاكمون البرغش
ثمة شتول عليّ شراؤها
لتصبح شرفتي (المناسبة لانتحار) أنيقة
وأفكار عليّ تقليمها
كي لا يبدو رأسي كشجرة
أيتها الحياة تناثري، تناثري
كوني قطعاً لطيفة من حزن وفرح
ولا تتكتّلي دفعة واحدة
في وجهي
يا مسحوق الزمن الهشّ
أيتها النار التي لا تشتعل أبداً
ثمة رياح كثيرة في الأعالي
كانت يوماً صلواتي
يا قلبي الفارغ
أيها الثور الهائج
الذي لا ينفكّ ينطح ضلوعي
لا أمل في الخروج أبداً
عجينة بين يديّ فلاحة
هو الوقت
واللقاءات المستعجلة
خميرة غير كافية لنضوج
آه لو تعلم أيها القلب المسكين
لك طرفان طويلان يرتديان النعال
ويقودانك كل يومٍ
إلى حتفك.
سباحة
أنظر إلى أيقونة الخلق
في باطن يدي
وأضمّها
كأنني لن أذهب أبداً
كل ليلة تعود إليّ الميّتة
غاضبة… ولا تعرفني
الحياة نقطة في نهاية الأفق
لا تقترب منها سفينة
أما نحن، من نجهل السباحة،
فنخدع أنفسنا بتأمّلها عن الشطّ
ثم حين يأتي الغروب
نخدع أنفسنا مرة أخرى:
أتيت، عشت، ورأيت.