أقلامهم

صالح الشايجي: «يبكي ويضحك.. لا حزنا ولا فرحا».. فيروز لست أدري

قيلولة:


«فيروز».. لكِ الغناء.. وعلينا السمع والصمت 
 
 
 صالح الشايجي


 


النوم علاج مؤقت.. أو موت صغير 
بعد التيه.. كان صوتها هو العنوان..
غنّت فأغنت الأنهار..
هل بدّل القمر موطنه.. ورحل؟
عند باب لسانها.. تزاحم الشعراء..
الليل وشموعه



لياليّ.. بنات أيّامها..


متساويات..


متشابهات..


توائم..


أو كما قال المتنبي :


«لياليّ بعد الظاعنين شكول»..


***


خميسها مثل سبتها..


تنطفئ شمعة السبت..


فتذوب ليلة الأحد..


وتشتعل شمعة الإثنين..


فتنير ليلة الثلاثاء..


وتبكي الجمعة.. يُتمَ الأربعاء..


*** 


ينطفئ ليلي..


إذا ما انطفأت شمعته..


وإذا ما شربت الأرض دموعها المتساقطات..


*** 


لم تبق في سمائي نجمة واحدة..


كل النجمات انسحبن من سمائي..


ولم يتركن لي شيئا من وهجهن..


عيناي مطفأتان.. وليلي أخرس..


***


الليل.. ملاذٌ غادر..


والنوم علاجٌ مؤقت..


أو موتٌ صغير..


*** 


عسل السماء


كان التيه..


فكان صوتك العنوان..


والسفائن..


تلك السفائن.. التائهة في بحارها..


الضالة في بطون الحيتان..


تبحث عن صوت يهديها إلى الشطآن..


فكان صوتك.. «فيروز الشطآن»..


***


اهتدت إليك الأبصار.. تضمر السمع..


تسلمك آذانها.. وترفع راياتها البيض..


تلوذ بمرفئك الأمين..


بصوتك الحامل فيروز السماء..


***


«فيروز»..


يا عسل السماء..


حين تغنّين.. تكذب البلابل..


***


«سكن الليل».. في عيني «يارا» الجادلة شعرها الأشقر.. الناظرتين أملا قد يبرق في عيني «شادي»..


ويخرج «حنا السكران» ملطخا بأوجاع الحانة السوداء..


في رأسه وجع الخمر.. وفي قلبه نشوة العشق.. «كعاشق خط سطرا في الهوى ومحا»..


***


فيروز..


تغنين..


فيغدو الجرح.. أغنية صامتة..


ويغدو الألم.. امنية تسمع..


والوجع.. يشتهي ان يكون حرفا على مشارف صوتك.. حتى يشفى.. ولسوف يشفى..


***


ناديتِ العابرَ الأسمرَ تقولين له:


«وقّف يا أسمر»..


خذ الرسالة المعاتبة..


من تلك البنت التي «بيتها فوق الطريق»


خذ لعينيك.. سلام عينيها..


خذ حبها وهواها.. وحرقة قلبها..


وخوفها من البوح خشية الملام..


ورعشتها واضطرابها..


ولذة العين حين تسقط في عين حبيبها..


***


كان حب البنات في ذلك الزمن «الفيروزي»..


أبيض مشوبا بحمرات الخجل..


تحمرّ وجناتهن..


ترتعش زغاليل في صدورهن..


إن طاف طيف الحبيب..


والصمت.. لغة المحبين في زمن العشق الصامت.. والحب المحبوس..


ذلك زمن.. كان خجولا..


لا يخجل من خجله..


يخجل من بوحه..


تخجل بناته من الحب..


فكان صوت «فيروز».. رسول المحبين..


يحمّلونه رسائل حبهم..


وأنينهم..


وأشواقهم..


وحتى أحزانهم المطوية في الصدور..


جسرا ـ كان صوتها ـ يصل المحبين بحبيباتهم.. والعاشقات بعشاقهن.. والقلوب بالقلوب.. والعيون تعبره إلى العيون..


***


ويتبدّل الزمان..


يغيّر حُللا..


ينزعها ويلبس غيرها..


ينسف ناسا.. ويطويهم تحت أجنحة النسيان..


أو طيّ التراب..


ويأتي زمان غيره..


وتتزاحم أرحام الدنيا..


تقذف إلى ساحاتها.. جديدها البشري..


***


صار الزمن غير ذاك الذي ولّى..


لم تعد فيه خدود البنات تتشرب حمرة الخجل..


في «كرم العلالي».. يزرعن خمرهن المسكوب من خدودهن النافحات


«عتوبي وحكي و دمع وهنا»..


صارت البنات يحببن على قارعة الطريق..


نزعن برقع خجلهن الفيروزي القديم..


ورحن يتمايسن.. كالأغصان المنسيّة للهواء..


مورّدات خدودهن دون خجل..


لا يعرفن خجل الحب..


وما عدن بحاجة إلى «مرسال المراسيل».. حامل منديلك الوردي الموشّى بالفيروز.. إلى حبيب أهداك وردة يتيمة فخزّنتها في كتابك.. وماتت ورود «مزهريتك» تجاهلا ونسيانا..


***


كتبت اسمه ع «الحور العتيق».. وكتب اسمك ع «رمل الطريق».. فحفظ «الحور العتيق» ما خطّه قلبك.. وخان الرمل اسمك العابر عليه.. وسلمه للهواء..


***


عذراوات اليوم.. مراسيلهن بوح مفضوح.. وعشقهن مكشوف الصدر.. عاري الكتفين..


ثرثار لا يحفظ السر.. كبخور محترق.. لكل منه نصيب..


للسابلة نصيبهم.. وللنظارة نصيب.. وللشارد وللوارد..


لكل الدنيا منه نصيب..


***


ما أبشع الحب المفضوح..


لا تخزّنه الصدور.. ولا يدفئها..


بارد كلوح البلور..


زجاجي سريع الانشطار..


اثيري سريع التبخر..


***


فلمن يا «فيروز».. تغنين..


لطيور بلا أعشاش..


أم لورود بلا ماء..


أم لقلوب لا تدق.. ولا تخفق ولا ترتعش..


أم لعيون لا ترف..


كل الأشياء بدلت سننها..


وغيّرت دروبها..


ونزعت جلودها..


وكل الناس رهنوا آذانهم..


وباعوا حناجرهم..


وتاجروا بقلوبهم..


وسبّلوا عيونهم في الطرق المعتمة..


والشموع.. حتى الشموع.. ما عادت بيضاء تنير ليل العاشقين..


صارت خرساء ملونة..


عمياء صامتة..


لا تبكي مثلما كانت..


ولا تذوب ولا تحترق..


صارت كأصنام.. بلا عُبّاد..


***


أما زلت يا «فيروز» تتكتّمين اسم حبيبك.. خشية علينا من «ضوعة الطيوب»..؟


أما زال ذاك الحبيب الخفي حبيبا..أم أهدرت السنون حبه المكنون في صدرك..؟


وهل مرّ بك «درب الأعمار» الذي اختبأت عنه حتى يكبر الآخرون وتظلي أنت وحبيبك صغيرين في وادي الحب..؟


*** 


خبريني يا «فيروز» عن «جارة الوادي»..


أما زلت «تطربين» .. ويغشاك «ما يشبه الأحلام من ذكراها»..


أم غدت بطن وحش.. ووادي ذئاب تعوي في النهار الأبلج..


وعن وطنك «لبنان» الذي تحبين..؟


«لبنان» هذا الذي غنيْتِه.. شمالا وجنوبا وبحرا وجبلا.. وجعلت شطآنه فيروزا يتراقص.. أما زال هو عيد الدنيا.. وعرسها.. وتاجها المرصع بالفيروز.. أم صار مأتم الدنيا.. وثوب أحزانها الأسود..؟


أما عششت بين أضلاعه عناكب الليل والنهار.. وغدا كسير القلب..


يتيما بلا رأس..


وكليما منخور القلب..


نازف العينين..


يغتسل بدمع جباله..


ويشرب ماء بحره المتواري خجلا من الشمس..؟


***


لمن تغنين يا ابنة الشمس..


لـ «جاركم القمر»..؟


هل مازال القمر جاركم.. أم غيّر موطنه.. ورحل بعيدا بلا عودة.. إلى سماء غير سمائكم..


أم تغنين.. «للبنت الشلبية».. و«عيونها اللوزية».. التي «ضحك اللوز» لعينيها..


أم لـ «شادي الألحان» وقد خلا «الحان».. من الألحان..؟


***


زمانك الأبيض اتشح بالسواد.. وذابت ثلوجه البيضاء..


نزع تاج العرس.. وأعلن الحداد..


هرب إليك .. يلوذ بصمتك الطروب.. «يبكي ويضحك.. لا حزنا ولا فرحا».. كمن مسّه خاطف من الجنون..


راح يتذكر ويبكي..


ويتذكر ويضحك..


القلوب باتت خزائن سوداء.. بلا مفاتيح..


من ذا الذي يحرس الخزائن السوداء المغلقة على أحزانها..


أو يخاف تبديد أحزانه..


لا حرمة للأحزان.. ولا حراس لها..


صوتك ـ فقط ـ يطير بنا بعيدا عن أحزاننا..


صوتك ـ فقط ـ يحبّب إلينا أحزانا ثقيلات لا تطير بعيدا..


***


امتلأ وادي «بني أمية» وحدائق الشام.. باللحم المحترق..


وفي العراق لحم يموت..


وفي مصر يأبى «أبو الهول» أن يموت..


وما عاد «لبنان».. يحرس الكلمة حتى تكبر.. فيصدّرها ملونة مموسقة.. كما كان يفعل..


ما عاد «لبنان» يزرع الأشعار..


نسي أن الشِّعر.. سجيّة لبنانية..


نسي أنه حارس الجمال.. وناطور بنات الكرْم المذابات في أقداح البلور المفضوح..


***


فلمن يا فيروز تغنين؟


لموتٍ مصوّر لا يستحي.. ولا يفتأ يطل من الشاشات يتفاخر بعدد من حصدهم بمنجله؟


أم لثكالى.. وأرامل.. وأيتام بلا خبز؟


أم لعيون تحجر الدمع في مآقيها؟


***


فيروز..


غنّيتِ.. كالغيث «إذا الغيث همى».. فاعشوشبت النفوس.. واخضوضرت القلوب.. وابيضّت الأكف.. وضحكت العيون.. وصار الناس أحباب الناس.. وتقاربت الأوطان.. وصارت الأنهار لا تضنّ بمائها.. والأشجار تمنح خضرتها للشمس ولا تخاف يباسا.. والريح صارت نسائم تعجز عن حمل الورود..


تزاحم الشعراء بين شفتيك.. وعلى باب لسانك.. حتى الراقدون منهم تحت تراب الأزمنة.. جاؤوك.. صفا صفا.. كلٌّ يحمل رقعته.. وبوح قلبه..وغزله وعشقه.. وفخره.. وسيفه..فلم تردّي سائلا منهم.. طاب شعره.. واستقام وزنه..


ماتركت منهم سائلا محزونا..


ولا عاد أحد منهم.. منكّس الرأس.. خائب الرجاء.. كسير القلب..


ما تركت غرضا من أغراض الغناء.. إلّا وقصدته بقلب المرأة الجسور..


ولا غرضا من أغراض الشعر.. إلاّ وجعلت له سوقا مشرعة الأبواب..


***


غنيت لآبائنا.. ولنا نحن.. ولأبنائنا.. ولأحفادنا..


عليك الغناء.. وعلينا السمع بلا معصية..


***


فيروز..


نفد مخزون كلماتي..


وساحت احباري على هذه الصفحة.. ولا ادري.. لا أزال لا ادري.. هل كتبت أم توهمت أني كتبت..


مازلت.. لست ادري..