آراؤهم

طفل الكويت الجميل

إلى كل من لا يعرفني.. أنا طفلٌ، كُتِبَ في قصيدة قبل ما يربو على العشرين عامًا، ولا أزال. تحررتُ من الأوراق والحروف. خرجتُ من القصيدة للتوِّ، وإذ بالحال لا تشبه تلك التي كانت في ما مضى، أوفي.. القصيدة إياها.
كويت يا كويت.. لحرية الرأي فيك تراث طويل..
وطفل المحبة بين ذراعيكِ طفلٌ جميل..
وزرع العروبة فيكِ قديم.. كهذا النخيل..
فظلّي كما كنتِ.. قلبا كبيرا.. ونجما منيرا..
وكوني الوسادة للمتعبين..
وكوني المنارة للضائعين..
وكوني كأية أمٍ.. تعانق أولادها أجمعين(*)
ها أنا وقد عرفتكم بنفسي. طفلٌ جميلٌ بين ذراعيّ الكويت، أو هكذا كنتُ وقت كتابة القصيدة. ما كنت لأتركها لولا الرائحة التي أزكمت أنفي، والدخان الذي أحرق عينيّ، والضجيج الذي أقلق راحتي. وجدتني هناك، بالقرب من الساحل، وإذ بالكويت ليست الكويت لولا أبراجها التي حالت دوني ودون عدم التصديق. كنت وحيدا رغم أن الكويتيين حولي ألوفا. كنت خائفا رغم أن قوات الأمن تنتشر في كل مكان. أجري لاهثا بين الحشود لا أدري بمن أحتمي. أتساءل: “أين أنا؟”. تجيبني الأبراج: “هنا”. أهزّ رأسي ولا أجرؤ أن أقول: “تكذبين!”.
الصوت الصادر عن الأحذية العسكرية يقترب.. العصي المطاطية تقرع الدروع بإيقاع منتظم.. والناس يصيحون من حولي: “سلمية.. سلمية”. هذا يكفي! أريد أن أعود إلى الكويت.. ألتفت حولي وإذ بالأبراج تهز رؤوسها تؤكد: “هنا.. هنا”. التصقت بجدار أحد الأبراج الثلاثة أراقب المشهد من حولي بما تتيحه سحب الدخان. القنابل الصوتية تخترق أذنيّ بصوتها ولا تترك سوى طنينا تتخلله أصوات لا أكاد أميّزها. القنابل الدخانية تنشر رائحة لا تشبه رائحة ساحل الكويت التي أعرف. انتابني رعب ما ألفته من قبل وأنا الملتصق “بين ذراعيها” منذ سنوات. أخذت أصرخ بكل ما أوتيت من.. فزع، إلا أن أحدا،إلى غير صوته، لم يستمع.
جلست على الأرض مسندا ظهري إلى الجدار. ضاما ركبتي إلى صدري مبللا ثيابي. أنا لا أفقه شيئا.. أنا خائف.. أنا لا أفهم ولا أعرف ولا أستوعب. أمرا واحدا يدركه عقلي الصغير، ان هذه الحشود، بكل ما تحمل من توجهات واختلافات، تنتمي إلى هذا الوطن. الرجال والنساء والأطفال والشيوخ.. ذو اللحية وحليقها.. السافرة والمحجبة.. أنا لا أصدّق أن كل أولئك البشر مغرر بهم. أنا لا أؤمن بوصفهم غوغاء. يخطئون؟ ربما.. يغضبون؟ ربما.. يعشقون الكويت؟ قطعا هم يفعلون!
يُمَّه.. راعني ما شاهدت تحت أبراجك الثلاثة.. أريد أن أهرب إلى مكان لست أدريه.. أريد أن أعود إلى قلب القصيدة طفل جميل كما كنت.. أتوسد أوراقها وألتحف حروفها ولكن.. ليس بعد ما رأيت. وليس قبل أن تعودي كما عهدتك: “قلبا كبيرا.. ونجما منيرا”..
يُمَّه.. أمّي أنتِ.. فـ: “كوني كأية أمٍّ.. تعانق أولادها أجمعين”.
________________
(*) من قصيدة “وردة البحر” للشاعرة د.سعاد الصباح.