آراؤهم

الإعلام المصري قبل وبعد سقوط نظام الفرعون الأخير!!.

مبكرا وفى الخامس والعشرين من شهر يناير 2011, أي يوم الانتفاضة الشعبية العارمة ضد نظام حكم الرئيس حسنى مبارك  والتي تحولت إلى ثورة هادرة زلزلت عرش الفرعون الأخير, قررت وأنا أغادر ميدان التحرير أن علاقتي بالإعلام المصري قد انتهت كمشاهد وقارئ, فلم أعد أقرأ الصحف اليومية ولا أشاهد التلفزيون إلا فيما ندر.

كان ظني ولا زال, أننا في مصر نفتقد إلى الإعلام الذي يمكن الاعتماد عليه في متابعة موضوعية للأحداث بدون تلوين أو فبركة أو تغليب المصالح والأهداف الشخصية على مقتضيات قيام الإعلام بدوره في إعلام وتنوير المواطن.

أمضى مبارك 30 عاما في السلطة لأن الإعلام لم يقم بدوره كما ينبغي وعجز طيلة ثلاثة عقود متتالية عن اختراق مؤسسة الرئاسة أو الاقتراب بما يكفى منها لكي ينقل للشارع حقيقة مايجرى خلف الأبواب المغلقة.

كان هم معظم الصحفيين أن تتعالى أصواتهم أو يلفتوا انتباه الفرعون الأخير في قصره الرئاسي, مفتعلين في سبيل ذلك أي ضجيج مصطنع على حساب الحقيقة والواقع.

تحول الجميع إلى كتبة مقالات وأعمدة واختفت الصحافة الإخبارية المتعارف عليها في العالم, وأصبحت مهمة الإعلام وخاصة الصحف الورقية تستند إلى التضخيم والمبالغات بدون السعي لتقديم رؤية حقيقية مجردة عن الأهواء والنزوات.

كان البعض ولا أريد أن أذكر أسماء يكتب وعينه على الرئيس أو الوزير أو رجل الأعمال, عساه ينال قطعة من الكعكة, أو تلقى إليه بعظمة في سوق النابحين.

في تلك الحقبة كان المشهد كالتالي إما أن تكون على حجر النظام فتتحول إلى منشد صداح بعظمة الرئيس ونظامه وسهما في عين أعدائه, أو تكون على الجانب الآخر من الرصيف تهمهم وتلوك الكلام شتما وسبا عسى أن يلتفت إليك صاحب الأمر.

كتب أحدهم يوما متألما من حرمان الرئيس كمواطن من حقه في الاستمتاع بطشة الملوخية وكتب آخر عن عبقرية الطعام على مأدبة العاهل السعودي , بينما حارب آخرون من أجل تكريس التوريث وضمان انتقال السلطة لابن الرئيس عندما يحين الوقت غير المعلوم.

توارت المهنة وماتت رغم محاولات القلة الإبقاء على معايير الالتزام والموضعية بقدر الإمكان,وتدريجيا اختفى الخبر من صحفنا وكل هذه القنوات الفضائية المتعددة.

وفى التلفزيون سواء الرسمي أو الخاص لم يكن الأمر سوى الأسوأ , فقد عرفنا جيلا من مقدمي البرامج يجيدون اللعب على الحبال والتلون بحسب الموجة ,كانت لهؤلاء مقدرة فذة على التلاعب بعقول ملايين البسطاء وفبركة الحقائق.
لقبوا أنفسهم بالاعلامى الكبير أو الاعلامى المعروف أو الاعلامى اللامع, وتقاضوا ملايين الجنيهات كمرتبات شهرية , وقدموا أنفسهم كمدافعين عن البسطاء الفقراء وكأنصار للدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان.

شخصيا لا أعرف من أين هبط هذا المصطلح المفاجئ, وعلى الرغم من أنى خريج كلية الإعلام , فلا أعلم يقينا مدلوله, لكن ظني أن من يحرصون على أن يسبق التعريف بهم وبأسمائهم, هذا المصطلح الهلامي, إنما يعانوا بالأساس من عقدة نقص وشعور بضآلة حجمهم الحقيقي.

أنا أفهم أن هناك الصحفي وهناك المذيع أو مقدم البرنامج, لكنى لا أفهم هذا الكائن الأسطورى الذي يطل يوميا على شاشات التلفزيون مستبقا اسمه بلقب الاعلامى.

شاهد هؤلاء المجتمع المصري من أبراجهم العاجية ولم يبالوا كثيرا بفكرة التضحية بمصداقية ووطنية الإعلام, وتحولوا إلى مسوخ بشرية كل همها إرضاء الفرعون أو نيل مكافأة من هامان.

وربما نحن الدولة الوحيدة في العالم التي ترى فيها هذا العدد الكبير من أنصاف الصحفيين الذين خرجوا من الصحف ليجلسوا على مقعد المذيع التلفزيوني بلا أي إعداد أو تدريب, كأنهم في مقهى شعبي أو في جلسة سمر.

والآن وبعد سقوط نظام مبارك فلم يتغير الحال كثيرا, صحيح أن عدد الصحف اليومية والقنوات التلفزيونية قد تزايد بشكل كبير, لكنه يبقى في معظمه لا يسعى لمصلحة المواطن ولا ينحاز لفكرة بسيطة هي أساس مهنة الصحفي من إعلام الناس بما يجرى بتجرد وموضوعية.

وفى بلد لازالت فيه الأمية جاثمة أنفاسه ومتغلغلة في كل ثناياه فقد باتت ” سبوبة ” الفضائيات هي الملعب الأكثر شهرة والطريق الأسهل إلى النجومية المزيفة , بحيث تحولت تقريبا بدون مبالغة كل القنوات والبرامج إلى دكاكين يشرف عليها مختلون عقليا ونفسيا, مكانهم الحقيقي هو مستشفى الأمراض العصبية والنفسية.

تزايدت مؤخرات هؤلاء على نحو لافت للانتباه, وانتفخت أوداجهم كثيرا, وتعالت أصواتهم في صخب لا ينتهي , دفاعا عن ثورة لم يشاركوا فيها ولم يكن لهم من دور في قيامها أو اندلاعها.

انبرى هؤلاء في تحول تاريخي في وصلة غسيل وجوه قذرة كالحة, اعتمادا على أن الجمهور ينسى وأن أرشيف السخافات التي ارتكبوها سابقا لن يعود إليه أحد ليذكرهم بماضيهم وحماقاتهم العلنية.

في زمن ما بعد مبارك تاهت الحقائق واختلط الأمر, وانتشرت جيوش الصحفيين الخشبية تغزو الوطن من أقصاه إلى أقصاه, مكرسة العمل على طريقة ” الرجل الذي عض الكلب”, بحثا عن إثارة تلفت الانتباه لكنها لا تقدم أي خدمة فعلية للمواطن.

إذا طالعت عيناك عناوين ما ينشر أو يذاع, ستجد أن هذا المبدأ بات بكل أسف وأسى, الركيزة الأساسية لعمل الإعلام.
يرتكب بعض الصحفيين والمذيعين جريمة كبرى لا تغتفر في حق المواطن البسيط, عندما  يقتصر دورهم على جلب القاذورات السياسية التي تمتلئ بها البلاد دون أن يمعنوا التفكير في أهمية المنقول ووجاهة المصدر.

عبث يومي لا ينتهي, وأخبار مفبركة بالعشرات, يتبارى الجميع لنقلها ثم نفيها أو إعادة إنتاجها يوميا في حلقات متصلة لمجرد ملء المساحات وسد الفراغ وشد القارئ أو المشاهد بأي طريقة.

ولأني من أهل البيت الاعلامى فقد قررت منذ أكثر من عام, أن لا أدخله مجددا فأنا أعلم تماما كيف يعمل هؤلاء وبأى طريقة وهم يفتقدون إلى أبسط مقومات المهنة , ولأني أرفض طبيخهم غير الصحي فقد رفضت مقولة أن ” طباخ السم يتذوقه”.

في بلد يكاد عدد سكانه أن يصل إلى رقم التسعين مليون نسمة, فان معدلات بيع الصحف الورقية مهين للغاية, وربما لا يتجاوز في أحسن الأحوال 3 مليون قارئ فقط تتقاسمهم كل الصحف القومية أو الحزبية أو المستقلة.

ثمة أسباب كثيرة لهذا التدني, لعل أبسطها الأمية, لكن في المقابل فقد اكتسحت القنوات الفضائية وارتفعت معدلات المشاهدة اليومية بشكل كبير.

ومع ذلك فان الهوس المسائي اليومي الحاصل على معظم القنوات الفضائية, مسئول عن هذا الصداع الذي يشكو منه الجميع دون جدوى!