أقلامهم

عبدالحميد الأنصاري: فترة كافية للحكم على الإسلاميين مضت لأنهم أميل إلى البراغماتية أو الأيديولوجية.

براغماتيون في الخارج مستبدون في الداخل! 
كتب المقال: د. عبدالحميد الأنصاري
البراغماتية السياسية منهج في الممارسة السياسية يسعى إلى تغليب العقلانية والواقعية على لغة المثاليات والشعارات والتنظيرات الأيديولوجية، ويهدف إلى تقديم المصالح الوطنية العليا على المصالح الحزبية الضيقة، ويراعي التوازنات الداخلية والخارجية بهدف كسب الأطراف والأطياف المجتمعية لتحقيق التوافق المجتمعي، وتدعيم الوحدة الوطنية، وترسيخ الاستقرار السياسي، وحشد الموارد والطاقات لتنمية المجتمع وتقدمه.
 وهو منهج محمود ومطلوب كسلوك سياسي، وكمنهج شرعي يستند إلى اعتبارات “فقه المصلحة والمرحلة” ومراعاة لـ”مقاصد الشريعة” وإعمالاً لـ”أحكام الضرورة” اليوم، وقد وصل الإسلاميون إلى الحكم بانتخابات ديمقراطية بعد سنين من المعارضة الطويلة، فإن من حقهم أن يحكموا وفق برامجهم، ويقيموا مجتمعات العدل والحرية والكرامة التي وعدوا الجماهير بها، ومن حقهم أن يثبتوا جدارتهم وأهليتهم للحكم.
 التساؤلات المطروحة من قبل ومن بعد: هل يلتزم الإسلاميون بالتوافق المجتمعي في تطبيق برنامجهم أم يفرضونه كرهاً على مجتمعاتهم؟ وهل يؤثرون منهج الاعتدال والبراغماتية في سلوكهم وتعاملهم مع المعارضة في الداخل وفي علاقاتهم الدولية بالخارج أم يتصلبون أيديولوجياً ويغلبون لغة العنتريات والشعارات ويقصون الآخرين؟
 خلافاً للقائلين بأن من المبكر تقييم تجارب الإسلاميين، ولجماعة “أعطهم فرصة”، وهي جماعة تدّعي أن المصريين صبروا على مبارك 30 عاماً فلمَ لا يصبرون على الإخوان سنة؟! وهي مغالطة دعائية لأن المصريين لم يكونوا صامتين على مبارك، إذ كانت الأحزاب السياسية والإخوان أنفسهم يعملون جميعاً ضده.
 أتصور أن فترة كافية للحكم على الإسلاميين مضت لأنهم أميل إلى البراغماتية أو الأيديولوجية، ومن حق الجماهير التي انتخبتهم كما أن من حق المحللين أن يقيموا تجاربهم، الآن: ما محصلة حكم الإسلاميين في الداخل والخارج؟
 1- لم يستطع الإسلاميون وإلى اليوم، القدامى “في إيران والسودان” والجدد “حديثو عهد بالسلطة” تقديم نموذج حكم إسلامي عصري ناجح، باستثناء نموذجي تركيا وماليزيا.
 2- يختلف تقييم حكم الإسلاميين في الداخل عن الخارج، وذلك على مستويين:
 أولاً: على المستوى الخارجي: كان الإسلاميون براغماتيين، عقلانيين، واقعيين، مرنين، أجادوا لعب الدور الدولي وأتقنوا لغة المصالح المشتركة، ونجحوا في علاقاتهم الخارجية وتغير خطابهم وسلوكهم 180 درجة، فنجحوا في إقامة علاقة ودية مع أميركا وفي طمأنة إسرائيل والمجتمع الدولي بعد أن كانوا “فزاعة” تستخدمها الأنظمة السابقة لتخويف المجتمع الدولي منهم.
 ترى من كان يتصور أن الإخوان في مصر سادة المظاهرات المناهضة لأميركا في عهد مبارك والذين كانوا يخوّنون نظامه بتهمة تبعيته وخنوعه للإملاءات الأميركية، ينجحون في التودد إلى أميركا لدرجة أن يقول قائلهم: إن تحالف الإخوان مع أميركا تحالف استراتيجي؟!
 نجح الإخوان في طمأنة إسرائيل بإعلانهم احترام معاهدة السلام معها، وحتى “حماس” أصبحت براغماتية، وبدأت تنخرط في العمل السياسي، وتجيد الحسابات السياسية والتوازنات، وهي اليوم تحرص على التهدئة، وتطارد من يطلق الصواريخ، وتتشاور وتنسق مع الجماعة الأم في مصر، كما نجحت مصر الإخوانية في تذليل العقبات للحصول على قرض صندوق النقد الدولي، وبلغت من البراغماتية أن قبلت شروطه القاسية بما فيها الفوائد الربوية!
 لقد حقق الإسلام السياسي عامة والإخوان في مصر خاصة نجاحاً خارجياً مشهوداً كتب عنه مشاري الذايدي مقالة بعنوان “مرسي الداخل ومرسي الخارج، من ينتصر؟” احتوت على إشارة ذكية، وهي أن الرئيس المصري مرسي استطاع في فترة وجيزة القيام بجولات خارجية نشطة من قطر إلى باكستان إلى جنوب إفريقيا إلى السودان، أثمرت علاقات جيدة.
 وتساءل الكاتب: هل يستفيد مرسي الداخل من نجاح مرسي الخارج أم يتضرر مرسي الخارج من عثرات مرسي الداخل؟ وفي ما يتعلق بعلاقة مصر بإيران قال الكاتب: إنها مجرد “مناكفات” إعلامية من جماعة مرسي لدول الخليج فحسب!
ثانياً: على المستوى الداخلي: يجمع المراقبون كما تجمع كافة الشواهد على أن الإسلاميين في الحكم– باستثناء تجربة بن كيران في المغرب القائمة على البراغماتية والاعتدال- متسلطون، مستبدون، إقصائيون، استعلائيون، في الشأن الداخلي، في التعامل مع قوى المعارضة الوطنية، مع اختلاف في الدرجات تبعاً لاختلاف تطور الدول، أخفها في تونس حيث يصرح زعيم النهضة الغنوشي بأنه لن يمنع البكيني، ولن يغلق البارات، ويصرح الرئيس التونسي المنصف المرزوقي في الدوحة في حلقة نقاشية بأن الشراكة بين العلمانيين والإسلاميين خيار استراتيجي وليست تكتيكاً مرحلياً.
 وهي كلها تصريحات في غاية المرونة والبراغماتية إذا صدقتها الممارسات العملية، وأشدها في مصر على يد الإخوان الساعين بهمة وعجلة إلى الاستحواذ على كافة المؤسسات والمناصب سعياً إلى إحكام القبضة وأخونة الدولة تمهيداً لأسلمة المجتمع.
 ومع أن عقيدة الإخوان، وهي أم الحركات الإسلامية السياسية، وطبقاً لوحيد عبدالمجيد، مزيج من الأيديولوجيا والبراغماتية، وكانوا براغماتيين على امتداد العهد الملكي وبعده في ظل عبدالناصر والسادات ومبارك، وهذا يفسر بقاءهم إلى اليوم بالرغم من كل المحن التي مروا بها، إلا أن براغماتيتهم تبدو مقصورة على كونهم في المعارضة أو في علاقتهم بالعالم الخارجي لا الساحة الداخلية.
 تعامل الإخوان مع القوى الوطنية في الداخل يتسم بالشدة والتصلب وعدم التنازل وعدم الاعتراف بالأخطاء أو الاعتذار، وأثبتت تجاربهم في الحكم فشلهم الذريع، وذلك لأنهم متعجلون، منفردون بالقرار، يؤثرون المغالبة على المشاركة، فنفّروا الناس منهم وأثاروا كافة مكونات المجتمع المصري ضدهم بدليل عدم فوزهم في العديد من الانتخابات المجتمعية.
 كانت سياساتهم الداخلية سلسلة من القرارات المربكة والأخطاء، ورفضوا حكم “الدستورية” بحل مجلس الشعب، ثم تراجعوا تحت الضغط الشعبي، وأصدروا إعلاناً دستورياً محصناً ضد نظر القضاء، وأعلنوا الحرب على القضاء وتدخلوا في شؤونه، وفرضوا نائباً غير شرعي أبطله القضاء مؤخراً ولم يتراجعوا، وحاصروا قصر العدل ومنعوا القضاء المصري الشامخ من العمل في يوم أسود وصفه وحيد عبدالمجيد بأنه لا سابق له لا في تاريخ مصر ولا في أكثر البلاد استبداداً، وأرهبوا القضاة وشككوا في ذممهم وطالبوا بتطهير القضاء، وكل واحدة منها تشكل جريمة في كافة البلاد المتحضرة.
 ونحن على يقين أن القضاء الشامخ لا يهتز ولا ترهبه هذه الاستفزازات، أصدروا دستوراً مسلوقاً رفضته القوى الوطنية وقاطعه نصف الشعب، ووصفه الفقيه الدستوري الكبير أبوالمجد بأنه يعطي صلاحيات للرئيس تجعله “فرعون”، وقال عنه وحيد عبدالمجيد إنه يعطي للرئيس سلطة مطلقة تتيح له أن يفعل ما يشاء عبر الاستفتاء العام.
 ضاقوا بالإعلام الحر وفرضوا الأخونة على المؤسسات القومية ولاحقوا الإعلاميين وجرجروهم للنيابة، ولم يتحملوا البرنامج الساخر لباسم يوسف، واليوم يسعون إلى تحجيم مرجعية الأزهر ويتحرشون بشيخه الإمام الأكبر مما جعل الجماهير تهب مدافعة عن الأزهر وشيخه معلنة أنهما خط أحمر.
 توعدوا المعارضة وخوّنوها واتهموها بالتآمر، وحملوها مسؤولية غليان الشارع وتردي الأوضاع، ولا يريدون الاعتراف بأن شراهتهم في الاستحواذ على كل شيء من النقابات حتى الرئاسة هي وراء ما يعانيه الشارع المصري من اضطرابات تقترب من حافة الحرب الأهلية؛ مما جعل من تدخل الجيش مطلباً شعبياً لإنقاذ البلاد وحماية العباد.
 الأوضاع الاقتصادية وصلت إلى حد أن الدولة تتسول المساعدات والمؤونات والقروض من الجميع وبأي شروط! لقد فهم الإخوان بأن التفويض الشعبي يعطيهم الحق في الاستبداد، وهذا فهم كارثي يجب التراجع عنه وإلا فإنهم يقودون أنفسهم ومجتمعهم إلى الكارثة.
 على الإخوان اغتنام الفرصة التاريخية الممنوحة لهم، فمسؤوليتهم أمام الله تعالى كونهم حملة الرسالة أعظم من مسوؤليتهم أمام شعوبهم، وعليهم أن يدركوا أن الشعوب اليوم لن ترضى بطغاة جدد كما قال علي الراشد رئيس مجلس الأمة الكويتي مؤخراً، لا يمكن أن أكون مستبداً في البيت وديمقراطياً في خارجه!