أقلامهم

بدر الديحاني: الدور السياسي لأمراء القبائل والطوائف أخذ يضمحل تدريجاً في الدولة العصرية حتى اختفى نهائياً.

مواطنون دستوريون لا رعايا وأتباع
كتب المقال: د. بدر الديحاني
القبيلة كيان اجتماعي يقوم على أساس عرقي، فعضوية القبيلة تشترط علاقة الدم فقط، فهي ليست مؤسسة سياسية تكون العضوية فيها مفتوحة لكل من يوافق على برنامجها السياسي بصرف النظر عن أصله ونسبه مع احتفاظه بحق الخروج منها متى ما شاء.  ودور القبيلة في الدولة العصرية هو دور اجتماعي تكافلي بحت واختياري أيضاً وليس دوراً سياسياً، وإدخالها في معترك العمل السياسي من أجل تحقيق غايات وأهداف سياسية يجعلها موضوعاً خلافياً يخضع للمصالح السياسية المتغيرة باستمرار؛ مما يؤثر تأثيرا بالغاً في العلاقة بين أفرادها الذين تربطهم علاقة القربى المبنيّة على العلاقة البيولوجية أو علاقة الدم من جهة، وفي دورها الاجتماعي من الجهة الأخرى.
وقد شهدت الانتخابات الفرعية القبلية ولا تزال تشهد حزازات ومشادات وخلافات بين أفراد ينتمون إلى العشيرة ذاتها، ناهيكم عن القبيلة المكونة من عدة عشائر لأن الأساس الذي تقوم عليه الانتخابات الفرعية هو منح صوتك لمن هو أقرب إليك من ناحية النسب، والذي قد لا يكون بالضرورة هو الأفضل.
أما في الدولة العصرية فقد حلّ مفهوم المواطنة الدستورية محلّ الهويات الثانوية التي نشأت قبل قيامها مثل القبيلة والطائفة والعائلة، حيث يحمل الجميع صفة المواطنة فيصبحون مواطنين دستوريين أحراراً متساوين في الحقوق والواجبات، وليسوا رعايا أو أتباعاً لهذا الطرف أو ذاك. بكلمات أخرى، في عصر ما قبل الدولة كان الناس يلجؤون إلى الهويات الثانوية لحمايتهم وحفظ حقوقهم، أما في الدولة العصرية فيلجؤون إلى القانون ومؤسسات الدولة، وبالطبع فإن هناك فرقاً شاسعاً بين أن ينتمي أي شخص إلى قبيلة ما وأن يتعصب قبلياً، أي بين القبيلة والقبليّة، فالأولى حسب ونسب، وبإمكان أي إنسان كان أن يتفاخر بحسبه ونسبه على المستوى الشخصي، أما الثانية فشوفينية مقيتة.
والتحول في طبيعة العلاقة من رعايا في الوضع القبلي أو العشائري إلى مواطنين دستوريين في دولة عصرية يترتب عليه بالضرورة أن تنصهر القبائل والطوائف والمذاهب والعوائل، وأي مكونات ثانوية أخرى في مؤسسة الدولة، ثم تنشأ الأحزاب والنقابات والجمعيات المهنية ومنظمات المجتمع المدني وجماعات الضغط؛ كي ينتمي إليها من يشاء من الأفراد بصفتهم مواطنين وليس بصفتهم من هذه القبيلة أو تلك الطائفة.
من هذا المنطلق فإن الدور السياسي لأمراء القبائل والطوائف أخذ يضمحل تدريجاً في الدولة العصرية حتى اختفى نهائياً، وخير دليل على ذلك هو فشل أغلب أمراء القبائل في “فرعيات” قبائلهم، بل إن بعضهم لم ينجح في مجلس الصوت الواحد رغم تدني النسبة اللازمة للنجاح في الانتخابات العامة بشكل غير مسبوق.
وكون أمراء القبائل شخصيات اجتماعية فهذا لا يعني بالضرورة أن لهم  تأثيراً سياسياً في أفراد القبيلة كافة، ومع ذلك فمن حقهم كمواطنين إبداء رأيهم ووجهة نظرهم في الشأن العام، لكنها آراء غير ملزمة لأحد إلا لمن يعتقد بصحتها، والذي ليس بالضرورة أن ينتمي إلى القبيلة ذاتها. من هنا فإنه ليس في مصلحة تماسكنا الاجتماعي وتطورنا المدني الديمقراطي أن تستخدم الهويات الثانوية والرموز القبلية والطائفية من أجل مكاسب سياسية آنية، فنحن الآن في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين وفي عصر ثورة المعلومات والتكنولوجيا وثورة علم الجينات وتطور علوم الفلك والفضاء، وشباب اليوم متعلمون وعلى درجة عالية من الوعي بحقوقهم الدستورية.  فقد ولدوا ونشؤوا مع الدستور؛ لذلك فهم يريدون دولة المواطنة الدستورية التي تتحقق فيها المشاركة السياسية والمساواة بالحقوق والواجبات والعدالة الاجتماعية وسيادة القانون وتكافؤ الفرص وعدالة توزيع الثروة.
أما الإصرار على تبني سياسات بدائية تؤدي إلى إذكاء الهويات الثانوية مثلما حصل عام 1980 عندما قُسمت الدوائر الانتخابية إلى 25 دائرة، ويحصل الآن من خلال المحاولات الجارية على قدم وساق لتمزيق النسيج الوطني، وعزل مكونات مجتمعنا عن بعضها بعضا، حيث يتكرر الحديث تارة عن “أنباء القبائل”، وتارة ثانية عن “السنة والشيعة”، وتارة أخرى عن مصطلح هلامي لا أساس موضوعياً له وهو “الحضر” ، فالهدف من وراء ذلك هو عزل المكونات الاجتماعية الأصيلة لمجتمعنا عن بعضها بعضا حتى لا تتوحد الجهود لتحقيق القضايا المشتركة والمطالب الشعبية المشروعة في استكمال بناء الدولة الدستورية الديمقراطية، وهو أمر أصبح مكشوفاً للجميع وبالذات لفئة الشباب.