أقلامهم

خلود الخميس: المتعة أكبر من مصيف ومكان، والجمال أعمق من أدوات زينة وفستان، والأمان قد يكون تحت عباءة.

كان في الشهور «بركة»!
بقلم خلود عبدالله الخميس
في كندا، وقد كنت آنذاك في الثالثة عشرة من عمري، ولن أمارس اليوم هواية الكُتاب بفضح أعمارهم وأقول منذ كم عام بادعاء أن العمر ليس إلا خبرة مضافة! هذا قول كذب، فجميعنا نحب التخييم في معسكر الشباب، ولكن لم يعد في المكان متسعا!
كنا وقتذاك، ومعظم الكويتيين، نصيف خارج البلاد من شهرين لثلاث، وأحيانا نقضي رمضان في المصيف، أو كما يقول الكويتيون «نرمض بره الديرة»!
العطلة الصيفية كان «فيها بركة» وحتى «الفلوس» كذلك، فقد كانت تكفي لهجرة «الظبان – جمع ظب» من جحور الحر والرطوبة والجفاف في خليجنا العامر، إلى لبنان الحبيبة، وسورية الأحب، وكانتا قبلتي الطبيعة والجمال والوجه الحسن والخضرة وحسن معاملة البشر، طبعا كل هذا «كان» مثلما الكثير من الجمال في حياتنا «كان» وانتهى.
وأوروبا أيضا لم تنجُ من الغزو الصيفي المنظم من سكان آبار النفط، وزادت أعداد الغزاة بعد الحرب اللبنانية في أواخر السبعينيات، حين تقاتل اللبنانيون على الهوية، فتفرق المواطنون ومزق الوطن، وبعد أن تعبت كل الفرق، ودمر الحرث والنسل والشجر، وتلوثت الأنهار والبحار، واستحال الجمال قبحا، والوجه الحسن بين دفين قبر ومهاجر لرزق وملهوف لفقد، وقيمة الليرة أقل من حبة التراب، ارتاح تجار الموت، ووضعوا أوزار الحرب، وجلسوا على طاولة المفاوضات، ليعود الوطن ويقبل بالمصالحة!
في كندا كانت صيفية التحول، من «تيراس» شاسع لفندق، نسيت اسمه، يطل من علو شاهق على شلالات نياغرا، كان التغير الذهني لنظرتي للعطلات!
كنت أنتظر يوم الإبحار في «شلال»، ليس سهلا على ابنة الصحراء أن تتخيل نفسها وسط شلال، وكأنه فيلم سينمائي، آنذاك، الكويتيون يعرفون أميركا، لكن كندا ليست ضمن خارطة طريق عطلتهم الصيفية، ولكن بعض العائلات «خالف تعرف»، وان نشأ أبناؤهم مثلهم على هذه النظرية جلسوا القرفصاء يندبون حظهم ويتساءلون «ليش عيالنا طلعوا جذيه»؟! نسوا أو تناسوا أو غفلوا أن «البادي أظلم»!
أتممت كل الاستعدادات لتلك الرحلة، والتصقت بـ «سترة أماني الخاصة» جدتي «وعباءتها السوداء» مع دعائها المتيقن بأن «الله خير حافظ» وركبنا حاملة بشر متوسطة الحجم وميزتها أنها تحتوي على مساحات ليجلس الجميع على الحافة ليستمتع بالمنظر، ولكن ليست كل حافة متعة، يومها وأنا كنت أضحك وفرحة برذاذ الشلال على وجهي وكلي شغف للعودة للكويت لأقص القصص على صويحباتي، غرق أمامي طفل!
فجأة ابتلعه الماء، هذا الشلال الذي كان يلاطف وجنتي منذ ثانية واحدة، كيف استحال وحشا وأخذ طفلا لم يتعد الأعوام الستة من قرب أبيه وأمه وإخوته، ولم يقدر أحد أن يجره من قعر الموت!
كانت مأساة! بقي المشهد لصيقي فترة طويلة، ولكن يومها بت أفكر بعمق بمعاني الأشياء، ولم تعد العطل الصيفية اللاحقة كالسابقات، ولكن الأهم من ذلك، أني تحولت فكريا وصارت لأسئلتي أبعاد لم تقدر بساطة وتلقائية جدتي، رحمها الله، على احتوائها، ومن ذاك الحين تعلمت لماذا لا نتغير إلا بمصائب، ولا نراجع طبيبا لفحص دوري إلا بوجع مبرح بعد أن نكون فوتنا ترميم ما نخره مرض بسيط فيتعقد!
تعلمت أن المتعة أكبر من مصيف ومكان، والجمال أعمق من أدوات زينة وفستان، والأمان قد يكون تحت عباءة، وأن بعض الوجوه تحمل أوطانا، وأن الحياة لا تضمنها سترة نجاة من صنع إنسان!
عطلة الصيف فرصة، لنتعلم وندرب عيالنا على التعلم.
وأخيرا، بعد «التراجيديا» أعلاه، أتمنى من القارئ الاهتمام بالمقال، لا الانشغال بتركيب أحجية الزمن ليكتشف كم أبلغ من العمر!