كتاب سبر

مليمتـر واحـد

يقول الأتراك، بأن الدولة تتقدم على الدين بمليمتر واحد، ولمن لا يعرف المليمتر، هو وحدة قياس طولي صغيرة جداً تساوي 10% من السنتيمتر، والمتر الواحد يساوي 1000 مليمتر، وأرى في مقولة الأتراك عين الحكمة.
أما لماذا تتقدم الدولة على الدين بهذا القدر الضئيل، فالإجابة ببساطة، هي، بأن الدولة كيان يشمل كل الأديان، ويقف منها على مسافة متساوية.
وضآلة تقدم الدولة على الدين، ترمز إلى قدسية الأديان وليس تجاوزها، فالأديان مهما اتسعت قاعدة المؤمنين بها، لا تشمل كل مواطني الدولة، وحتى لو شملتهم، فسوف يفرقهم المذاهب، وحتى ضمن المذهب الواحد، هناك اجتهادات مختلفة، تصل إلى حدود الفرز القاطع، فسطاط مؤمنين وفسطاط كفار، وفرقة ناجية خلافاً لما عداها.
ولنا في نادرة المسلم الذي طلب منه دفع تبرع يسهم في دخوله الجنة، عندها رد باستبعاد كل منتسبي الدين، ثم حصره في نفسه بصفته الأكثر ورعاً والتزاماً، وأنهى عملية الإقصاء بالجملة الشهيرة “أنا واللي هو أنا ماني بضامن للجنة”.
مقام هذا المقال، هو ما نراه من فرز ديني طائفي عنيف وغبي ومدمر، لأننا أصبحنا نقدم الدين ولو بمليمتر واحد على الدولة، ونظرة على ما يحدث في العراق وسوريا ولبنان وحتى في مصر المتسامحة، ودول الخليج والكويت ضمنها، ليست استثناء، لنعرف بأن الجميع حتماً خاسر إن تبقى لهم شيء يخسروه، أو حتى ضريح دولة يبكون عليه.
وربما نتسامح مع موقف خاطئ في تقديم الدين على الدولة، إذا ما اعتقدنا بأنه نتاج فهم ساذج، ولكن، الغالبية الساحقة من المواقف هي مواقف انتهازية من قيادات طامحة إلى سلطة غير مستحقة، وتطبق تلك القيادات المثل القائل “الدين طير حر من صاده قنص به”. 
بينما الحقيقة هي، أن أحداً في الدنيا لا يملك وكالة حصرية سماوية أو وضعية، من أي مرجعية في أي دين أو مذهب، تؤهله لأن يبدأ حساب الناس قبل يوم الحساب.
عودة إلى التجربة التركية، عندما أسس نجم الدين أربكان حزبه الإسلامي في بدايات ثمانينات القرن الفائت، قدم الدين على الدولة، وبات يتوق إلى الماضي، أو إحياء دولة الخلافة العثمانية، وفشل فشلاً ذريعاً.
وعندما انقلب عليه رفاق دربه أو تلاميذه مثل آردوغان وغول، قبلوا بتقدم الدولة بمليمتر واحد على الدين، وانتصروا للمستقبل، وما بين عام 2002 وعام 2010، ضاعفوا حجم الاقتصاد التركي 3 مرات، وخفضوا بشدة مستويات البطالة والتضخم، وأصبحت تركيا نمراً أوروبياً آسيوياً، ومثال يحتذى.
وأصبح الكل يخطب ود تركيا، بينما قدمت تركيا نموذج إسلامي متفوق، ليس بلا عيوب، وليس حتى بلا خطايا، ولكن محصلته قصة نجاح، وكان النجاح أكبر انتصار للدين، بكل اللغات، وأمام كل الأديان. 
في الفترة الأخيرة، ارتكب الطيب “أردوغان” خطاً جسيماً، إما بسبب نشوة النجاح، أو بسبب ديمومة السلطة لفترة طويلة -11 عام-، ورأى أنه بالإمكان محو “المليمتر الواحد” واختزال الدولة بسلطة الحكومة.
فقد كان الطرح السلطوي لمشروع ميدان تقسيم خطأ، واستخدام القوة المفرطة في مواجهة ردود الفعل عليه خطأ أكبر، فلا المشروع كان مهماً ولا ردود الفعل عليه كانت من أجل الشجر كما ذكر “اردوغان”.
كان رد الفعل توظيف سياسي لرفض مشروع سلطوي مشابه لتجربة “بوتين ميدفيديف الروسية”، والصحيح هو قراءة الفعل ورد الفعل من هذه الزاوية.
ولكن، لأن روسيا لم تنتقل أصلاً من مشروع الحكم إلى مشروع الدولة، بينما تركيا فعلت، فمحصلة أحداث تركيا الطامحة للانضمام إلى منظومة الوحدة الأوروبية ستكون مختلفة وإيجابية، ولصالح تأصيل مشروع الدولة ودعم مسارها الديمقراطي.
وأكاد أجزم بأن المشكلة التركية ومثلها البرازيلية ستنتهي سلماً وعلى خير، فإما أن تحقق إفرازاتها صدمة إيجابية تعيد وعي محمود إلى قيادة “أردوغان” خلاصته أن أي إدارة مهما بلغت إنجازاتها هي إدارة مؤقتة، أو أن تصل هذه الرسالة من خلال صناديق الاقتراع في العام القادم.
ولو عدنا إلى أصل المشكلة لدينا، نجد أن لا علاقة للدين بحالة التمزق التي نعيشها، بدليل تقدم تركيا وقبلها ماليزيا، وبعدها أندونيسيا أكبر بلد إسلامي، وإنما المشكلة في غياب مشروع الدولة. 
فعند غياب مشروع الدولة، يتقدم كل شيء عليها، حينها يصبح الحفاظ على ما عداها، أو مشروع الحكم، أسري أو ديني أو غير ذلك، آفة، وسيلته إضعاف الجميع ليبقى الطامح بديمومته أقوى الضعفاء، ووسيلته تمزيق المجتمع، أو فرق تسد، ولا يستثني من ذلك حتى المقدسات. 
والجهاد الحقيقي لصالح الدين، هو دفع مشروع الدولة لدينا مليمتراً واحداً متقدما عليه، وذلك لا يحدث بالدعاء الصالح فقط، وإنما بإيمان المؤثرين على اختلاف مشاربهم السياسية، بأن لا مساومة على مشروع الدولة.
فنحو 99.99% من الانتماء الديني أو المذهبي موروث وليس خيار، بينما توظيفه في السياسة إساءة له وخطر قاتل، وفي الكويت، سبق إقصاء الحضر ثم الشيعة ثم بعض السنة ثم القبائل وهكذا، وكادت الطائفية في ثمانينات القرن الفائت تعصف بالكويت حتى غزاها “صدام” السني. 
بينما المواطنة شاملة، والتمييز ضمنها، تمييز عطاء للوطن وليس استنزافه، وتمييز قدرات وليس ولاءات عصبية أو مصلحية، ذلك ما يبني وطن نفخر فيه، سنة وشيعة، وبدواً وحضر، وكل المطلوب، تقديمه مليمتر واحد على الانتماءات الأخرى، وليس إلغاء تلك الانتماءات.
جاسم السعدون
26 يونيـو 2013