كتاب سبر

شكراً.. سعاد

ممتنة أنا كثيراً لمقال الأستاذة سعاد العنزي الذي يأخذ النقد إلى حيز من الحيادية والرقي والنحو باتجاه الاصلاح الفكري الحقيقي ما يدعو الى الاستمتاع بتبادل وجهات النظر دافعاً بنا لاكتشاف أنفسنا ومراجعة مواقفنا والغوص عميقاً في مفاهيم ومبادئ هي الأكثر حاجة للنقاش والتوضيح في مجتمعاتنا.
الأستاذة سعاد في تبنيها لوجهة نظر محايدة تقول لربما لقراري قبول كرسي في لجنة اجازة النصوص المسرحية أسباب مختلفة أحدها هو تغير الرؤية حول موقف معين وهو “نوعاً من التغيير من الداخل.. نوعاً من خلق التوازن في المعادلة، أو محاولة لرؤية الشيء من داخل الشيء نفسه بدلاً من النظر إليه من الخارج” أو هو “من قبيل تعديل وتطوير الرؤى” وهو تحليل غاية في الواقعية الانسانية التي لا تلبث تتأثر بما حولها وتتغير في محاولتها المستمرة للتعايش والتطور. هذا التغيير أو التعديل يستدعي، حسب رأيها، مراجعة مفاهيمنا التي نتبناها مثل مفهوم الرقابة ونوعيتها في حالتنا هذه، وهي في رأيي المراجعة المستحقة والمهمة جداً في زمننا الذي لم تعد معه الرقابة التقليدية تجد نفعاً أو تحقق هدفاً بالنسبة للمؤمنين بها.
وبلا أدنى شك، تعرضت أنا شخصياً لمتغيرات دفعت بي لتبديل مواقفي بعد ان اتضح جانب لم يكن بادياً لي من قبل، والمثال الأقرب على ذلك كان موقفي المقاطع خلال صراع المقاطعة والمشاركة والذي أتى مخالفاً لما انتهجته سابقاً بل ولمواقف كل من حولي من الأهل والأصدقاء أكاد أقول بلا استثناء. لذا لا خجل أبداً من تبدل المواقف والرؤى والآراء، بل ان الطبيعة البشرية تستدعي هذا التبدل والتغيير كما أوردت الأستاذة سعاد في قولها “وما فائدة المعرفة المتجددة إن لم تغيرنا للأفضل؟ وهل هذا يلغي حق الانسان من المحاولة في تغيير الشيء من داخله بدلا من رفضه من الخارج؟”
وعليه، وعلى الرغم من اتفاقي التام مع رأي الأستاذة سعاد بل واختباري الشخصي لتغير مواقفي ومواقف من حولي، الا أن لدي اعترافاً أقدمه، الا وهو أن قرار قبول الانضمام للجنة اجازة النصوص المسرحية لم يتأت من مراجعة للنفس ومن تغير في الرؤى، ولا يعيب لو كان كذلك كما تفضلت الأستاذة سعاد، على الأقل في وعيي ليس هذا هو السبب، ولربما للاوعي قصة أخرى، الا أن سبب انضمامي للجنة، افصله مرة أخرى فلربما يسهم شيئاً في الحوار حول الرقابة وحول دورنا الانساني، يتأتى في سببين: الأول هو ما أوردته سابقاً من اعتقادي الحقيقي أن اللجنة ما هي سوى جبهة جديدة لحرب الحريات أستطيع من خلالها أن أساهم في تحدي قوانين الرقابة البائدة والدفع بالحريات الى أقصاها، وهو في الواقع موقف ليس بجديد، ففي الوقت الذي كنا نقف فيه معتصمين ضد الرقابة أمام باب معرض الكتاب منذ سنوات خمس، كنت أترأس اللجنة الأكاديمية في قسمي العلمي في جامعة الكويت، أي أنني كنت ولجنتي المعنيين باجازة كتب قسمنا العلمي التي لا تخالف القوانين، وهو موقع استخدمته، كما أستخدم موقعي في اللجنة الآن، لأكافح هذه القوانين لا لأستسلم لها، وهو موقف له ثمن لا يغفله أحد. وعليه، فقبولي بمقعد في هذه اللجنة واستمرار كفاحي من أجل الحريات لا يبدوان لي متناقضين، بل متوائمين ومتوازيين باتجاه المزيد من هذه الحريات.
أما السبب الثاني فهو حقيقة يعنيني شخصياً وهو الأهم بالنسبة لي حيث يروي في نفسي تعطشاً قديماً. تعتبر لجنة اجازة النصوص لجنة فنية بقدر ما هي رقابية في الواقع، وهو اختصاص أوسع حتى من ذاك الذي للجنة العلمية التي كنت أترأسها سابقاً في الجامعة، أي أن اللجنة هي في عمقها لجنة أدبية معنية بتقييم الأعمال المعروضة عليها مسرحياً وخصوصاً فيما يخص مسرح الطفل. وطبعاً، وككل اللجان المعنية بالمواد المسموعة والمرئية والمقروءة، فان فرشتها القانونية هي قوانين المرئي والمسموع، وهي التي أعنى بمحاربتها.
الا أن عمل اللجنة يتسع الى الاطلاع على النصوص المسرحية وتقييمها أدبياً وارسال الملاحظات الفنية والأدبية لأصحابها وطلب التعديلات اللازمة ليكون النص المسرحي على درجة مقبولة من الجودة والرقي، وخصوصاً بالنسبة لنصوص مسرح الطفل. فهذه النصوص تلقى من الأعضاء تدقيقاً شديداً وعناية فائقة وهو ما أحمده كثيراً في عمل هذه اللجنة. شخصياً، أميل للتشدد الكبير في نوعية النص المسرحي المقدم للكبار قبل الصغار، فالمسرح هو المؤشر على نوعية المجتمع ورقيه، وعندما يهبط العرض المسرحي، تهبط الذائقة العامة وتتدهور الثقافة في المجتمع. ولقد راجعت عدداً من اللجان المشابهة في الخارج واستفسرت عن طريقة عملها، وبدا لي أن لجان الدول الأوروبية المعنية باجازة النصوص المسرحية متشددة جداً، فلا تسمح الا للنصوص فائقة الجودة بالوصول لرواد المسرح، والذين عادة ما يكونون أكثر طبقات المجتمع ثقافة. وهنا يأتي الجانب الشخصي لي، فمنذ عودتي للكويت بعد الانتهاء من دراساتي العليا وأنا أعمل في القضايا المجتمعية والانسانية ولم يحدث أن ساهمت في تحقيق شيئ في مجالي العلمي، وهو مجال الأدب وتحديداً المسرح الحديث والمعاصر، سوى من خلال البحوث العلمية التي لا تجد طريقها للمجتمع.
ولطالما حلمت أن يكون لي دور في التطور المسرحي عندنا في الكويت. بداية كان حلمي أن أؤسس وزملائي مسرحاً عالمياً تعرض عليه أعظم الأعمال المسرحية الكلاسيكية والحديثة، اليوم تضاءل الحلم الى المحافظة على الأقل على المسارح الموجودة من الزوال ولربما الى الارتقاء بالنص المسرحي المعروض والعودة بالكويت الى زمن المسرح الراق الجاد. لقد ارتأيت في عضويتي في هذه اللجنة الفرصة المناسبة ليس فقط لتحد القوانين البائدة ولكن لأقدم كذلك شيئاً بسيطاً في المجال الذي أنفقت سنوات دراسة طويلة فيه وحلمت دوماً بترك بصمة صغيرة عليه.
أستاذة سعاد، الحوار حول الرقابة، مفهومها 
ونوعيتها وحدودها، هو حوار مستحق، يسعدني أن أتبادل واياك والقراء الرأي حوله، أستفيد منكم وأتنور برؤاكم. في دخيلة نفسي، الرقابة مرفوضة مذمومة بكل أنواعها الا أنه، كما أوردت أستاذة سعاد، قد تكون مطلوبة ويمكن تقنينها بشكل لا يتعارض مع الحريات، مثلاً بتحديد السن على المادة المرئية والمسموعة والمقروءة، كما يحدث في السينما وكما يتحقق في الدول الغربية التي تضع تصنيف عمري على كتبها. أما الرقابة المحمودة فهي تلك التي تعالج القيمة الفنية للأعمال وهي مطلوبة في الكثير من المجالات ولا سيما المسرح الذي يبدي الغرب تحديداً حساسية مفرطة تجاهه، فيتشدد كثيراً في نوعية ما يقدم عليه، وهو التشدد الذي أحمده وأراني أميل باتجاهه باعتبار أن المسرح هو خشبة الفن المقدسة التي لا يجب أن يعلوها الا من يستحق الوقوف عليها.
أما بالنسبة لذكرك موضوع حقوق المثليين والذي كما تفضلت باختلافك معي حوله في ذات الحين الذي أوسعت لرأيي مجالاً لديك فيه، وهو المسلك الفكري الأمثل الذي أنحني له وأشكرك من القلب عليه، فهو موضوع يطول لربما أتينا عليه في حوارات فكرية أخرى، فأي نقاش حوله الآن سيأخذ الحوار اليه ليهمل الموضوع الأساسي وهو ما لا أود الانجرار وجرك معي اليه. انني، وفي حين يقف مقالك منا موقفاً محايداً تماماً، الا أنني ممتنة جداً لرقي طرحه ولتساؤلاته التي قد تفتح أمامنا آفاقاً من الحوار والنقاش الذين لربما يصلان بنا لبر أمان نشتاقه. أما موضوع التخوين والانحراف الذين وصمت بهما فمن قلبي أرى لهما العذر وأسامح أصحابهما، فلقد وسمنا مجتمعنا غائر الفساد بوسم الشك واستباق الطالح على الصالح حتى أصبح شعارنا “الانسان متهم الى أن تثبت براءته”. نحن، بغضباتنا وتنفيسنا وهياجنا لا نأخذ سوى “رأس الخبر”، كما تقول الاستاذة سعاد، “ولا نكمل قراءته”، يكفي رأسه لنوجه حربة تنفس عن غضبتنا وشعورنا الدائم بالظلم وتجاوز غيرنا لحقوقنا. لذا، أسامح وأستسمح الآخرين ويبقى النقد بل وحتى الهجوم غير المبرر فرص لنا لاعادة تقييم مواقفنا. فشكراً أستاذة سعاد مقالاً رائعاً لربما أجلسني جلسة رائقة اراجع فيها الكثير من المبادئ والمثل وأعيد تقييمها، فكل الامتنان لك.
د.ابتهال عبدالعزيز الخطيب