أقلامهم

خلود الخميس: الأنظمة المستبدة كبيوت العنكبوت، ما أوهنها وأسرع وأيسر هدمها!

العرب.. ألهموا العالم لخلع البيعة!
بقلم: خلود الخميس
ليست ثورات الربيع العربي بدعة على تاريخ حراك الشعوب الثوري الإصلاحي، إنما عاش العالم كله بين هدوء وزوابع منذ بدء الخليقة، وسيستمر حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وهذا ضمن سنن التدافع الإلهية للحياة في الأرض.
والوصف العلمي لذلك المنحنى النضالي هو «مسار النهضة» وهذا نتاج لثقافة عامة للشعوب تتأرجح ويتأرجح بدوره معها صعوداً وهبوطاً وقد يستقر في إحدى النقاط ما بينهما، تبعاً للحالة الثقافية وليس العلمية أعني هنا.
لتبسيط فكرة «مسار النهضة» نضرب مثلاً بنهضة الأمة الإسلامية، فقد كانت في ربيعها أثناء عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، رغم النضال الذي ذكرناه أعلاه، والتنقل بين المواجهات الشرسة والاستتباب في تثبيت الدعوة لله والدين الإسلامي وحروب الردة في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه ومقتل ثلاثة من الخلفاء الأربعة، الأمر الذي يثير عند العقلانيين تساؤلات شكية عن تناقض محتمل بين «قمة هرم النهضة» الذي نقوله هنا، وتلك التصرفات الخارجة عن المنهجية النهضوية، وهذه فرصة لأن نؤكد أن النهضة «حالة عامة جمعية» تحقن العمود الفقاري للأمة بالأمل والعمل معاً بالتوازي ضمن منظومة قيم متفق عليها، وتخضع لارتقاء الروح لا الجسد، وسمو الفكرة لا الأشياء.
لذا، فالمسار آنذاك كان إلى القمة، واستقر في أعلاها، بينما بدأ بالهبوط في الدولة الأموية بسبب النزاعات السياسية وعاد في عهد الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز، ما يعطي مؤشراً بأن العدل أساس الحكم الرشيد، وأنه يسبق مرحلة نهوض أي أمة، وهو المحرض الفعلي لخط المنحنى ليرتفع لأعلى ويثبت في قمته.
وينحدر المنحنى عند الخواء الروحي والتعلق بالملموسات، وهذه نظرية المفكر مالك بن نبي في النهضة، كل تراجع لها سببه تفوق المحسوسات على الروحانية، والعكس صحيح.
ولكن ما أعنيه بالعنوان أنه منذ أن حرق «البوعزيزي» نفسه، ألهم العالم الذي يتوق للحرية، وحثا بوجهه ماء مثلجاً ليفيق من غيبوبة الركون للواقع، والاستسلام للتعود، والقبول بالكفاف.
انظروا لتحرك الشعوب في العالم الآن، أرجاء العالم العربي، التذمر الشعبي في الخليج من سياسات الحكومات، احتجاجات تايلند، تظاهرات اوكرانيا العارمة، ومشاريع ثورات متناثرة هنا وهناك لم تنضج بعد لتبين، تختلف تفاصيل أسبابها، وتتفق بأنها ضد الحكم الفردي والتسلط في اتخاذ القرار، والحكومات المستبدة، الأنظمة المستطيرة الشر، وكذلك النخب الحامية لهذا الوجود، من متنفعين وكبار الموظفين الحكوميين في الدولة، وما يتبعها من «لوبيات» الاقتصادي والسياسي والاجتماعي ومؤسسات المجتمع المدني المتخفية خلف عنوان «الخدمة العامة» وهي مؤسسة صفوة تهدف لتعبئة فريقها عندما يُنفخ في صور دولة العنصرية لتقوم على جماجم الأغلبية العامية الفقيرة.
لنتبصر في الحقيقة، الواقع، لا الخيال والآمال، لا الكذب والافتراءات، لا التحيز لفئة، بل بحياد، فهو «اوكسجين» البصيرة، وجهاز إنعاشها، والقيم الإنسانية باعثها من الموت.
قرأت، منذ كنت في المرحلة الثانوية، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد لعبدالرحمن الكواكبي، الثائر فكرياً على منهاج زمانه، الخارج عن خارطة مكانه، واليوم أعيد قراءته، لم يتغير شيء في الفكرة، إنه حق الشعوب في الثورة في سبيل الحرية، بمواجهة الفكر الاستبدادي للحكام والحكومات.
إنه الصراع الأبدي، بين خيرية الشعوب، وشر السلطة المستطير.
النزاع الدموي، بين طبقة مسحوقة في سبيل لقمتها، وأخرى أتخمت حتى انفجرت وتناثر خبَثها على المجتمع.
ولكن الجديد في الثورات اليوم، أن الذين تولوا كِبرها ليس الفقراء، بل الطبقة المتوسطة وجيل التقارب الشعبي من الطبقة الغنية النخبوية، التي وقفت في صفوف مطالب المسحوقين، لقناعتها بفساد السلطة المطلق، وهذا يؤكد أن انحدار منحنى مسار النهضة يغذيه الإمعان في الإفساد، وإثبات بلوغه القاع في الثورة عليه.
بالرغم من وجود شرذمة تدّعي الثقافة والانتماء للفكر اليساري والليبرالي والعلماني، إلا أن الثورات كشّرت عن خبيئاتهم الإقصائية وشهيتهم الدموية، وهؤلاء لا يمثلون في أي ثورة إلا العَرَض الجانبي للدواء، الثورة هي الدواء، وأعراضها الجانبية المتوقعة هو «المثقف المستبد» وهذا لن يوقف التداوي الذي يمتلك الأثر والنتيجة الأهم.
لا عجب من صراع البقاء بين الشعوب والاستبداد، إنها الحرية، ذلك المصل المنقوش بحبر سري لا يقدر على قراءته إلا مظلوم مقهور محروم منها، ويساندهم المتنعمون ممن خلعوا بيعة «الطربوش» و«البشت» و«السيجار» و«كؤوس البراندي» و«سهرات الأوبرا»، ليقفوا في الساحات والميادين مع الحفاة العراة يأكلون مما يأكلون وينامون ملتحفين الإيمان من السماء، مفترشين الأمل من نشأتهم الأولى، التراب.
الحرية، قيمة تكرسها منظومة عدل مطلق، عدل لا انتقاء فيه، عدل له عينان لا عوَر بإحداهما يغض النظر عن عائلة أو منصب، عدل يقطع يد الحاكم السارق لقوت الشعوب قبل الفقير السارق قوت يومه حقه المنهوب، ورقبة الحاكم القاتل لهوى قبل المحكوم القاتل قصاصاً لحق له لم يُنصف فيه، عدل نلتفت في الجهات الأربع اليوم، فلا نجد في أي منها حتى قشوره.
لقد أصبحت حرياتنا في ظل الأنظمة المستبدة كبيوت العنكبوت، تُصنع بدقة متناهية، وتأخذ عمرا في إنجازها، ولكنها مفصلة على قياسات ما، توظف القوانين والتشريعات لسنها بمشيئة السلطان وطغيانه، لا الإنسان وكرامته.
ما أوهنها وأسرع وأيسر هدمها!