أقلامهم

وليد الرجيب: نفوذ مانديلا الروحي أوقف المجازر الانتقامية من السود ضد البيض.

أصبوحة / الأيقونة
وليد الرجيب
كنت قد قابلت قبل أسبوعين سيدة ناشطة من جنوب أفريقيا تُدعى لوسي ماهلانغي وسألتها عن صحة مانديلا، فأجابت: «رغم إن الشعب يعرف أنه ميت سريرياً إلا أنهم ينامون ويصلّون ويشعلون الشموع أمام بوابة المستشفى الذي يرقد فيه» قلت لها: «لكن روحه ستبقى خالدة»، اغرورقت عيناها بالدموع قائلة: «أعرف ذلك لكننا شعب لا نريد حتى لجسده أن يفنى».
وفي يوم الخميس 5 ديسمبر الجاري، فقَدَ شعب جنوب أفريقيا وشعوب العالم المحبة للسلام المناضل والقائد السياسي الخالد «نيلسون مانديلا»، بعد صراع طويل مع المرض، هذا الإنسان الذي أصبح أيقونة للنضال والصمود والإنسانية والتسامح في التاريخ البشري.
كانت دولة جنوب أفريقيا تعاني حرقة التمييز العنصري اللاإنساني في زمن لم يعد لذلك معنى، ولكنه شعور الأبيض الأوروبي بالتفوق على الشعوب والأجناس الأخرى، ولا أظن أن تلك المشاعر البغيضة قد اختفت عند الإنسان في كل بقاع الأرض، فالتمييز العنصري ضد اللون والعرق والمذهب والأصل والقبيلة والدين..الخ موجود في قلوب كثير من البشر الذين لمّا يتخطوا عتبة التحضر والإنسانية بعد.
لكن الفقيد العظيم والرجل الاستثنائي ضرب أروع الأمثلة في نضاله ضد التمييز الذي كان يمارس على شعبه بسلمية تامة، حتى ارتكب الرجل الأبيض مجزرة «شاربفيل» التي راح ضحيتها 69 مواطناً أسود، فأنهى مانديلا نضاله السلمي وانتقل بحزبه «المؤتمر الوطني الأفريقي» إلى العمل السري، ثم انتخب قائداً لحركة «أومكونثو وي سيزوي» التي تعني «رمح الأمة» عام 1961 وهي الجناح العسكري لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي.
بعد القبض عليه حُكم بالسجن مدى الحياة عام 1964 بتهمة التخريب والسعي لقلب نظام الحكم، وأمضى في السجن 27 عاماً، قضى 18 منها في جزيرة «روبن آيلاند».
ولم يحل سجنه دون استمرار النضال ضد الفصل العنصري ومن أجل التحرر، بل أصبح رمزاً لهذا النضال وهو داخل السجن الذي تحول إلى متحف بعد الإفراج عنه بسبب الضغوط الدولية وحملات التضامن في العالم أجمع، ما جعل الحكومة العنصرية ترضخ في النهاية.
وحظي مانديلا بشعبية داخل وخارج جنوب أفريقيا، فكان من الطبيعي فوزه بانتخابات الرئاسة عام 1994، وانتهت بذلك حقبة سوداء في جبين البشرية، حقبة «الأبارتايد» أو التمييز العنصري البغيض.
وقد كان من الممكن أن تحدث مجازر انتقامية من المواطنين السود ضد البيض، لكن نفوذ مانديلا الروحي على الجماهير وتساميه على جراحه ونداءاته للتسامح والغفران وضرورة التعايش الأخوي بين جميع مكونات المجتمع، خفف من غلواء الحقد الدفين جراء عبودية استمرت لأكثر من ثلاثمئة عام.
عندما سألت صديقتنا الجنوب أفريقية لوسي هل ما زالت هناك بقايا للتمييز العنصري أم انتهت تماماً، قالت بيقين العارف: «لا لم ينته في بعض المدن والمناطق، فالتعصب والكراهية المزروعة بنفس الرجل الأبيض ما زالت لكن القانون يكبحها، وربما نحتاج إلى قرون أخرى حتى تتلاشى هذه الكراهية».
أثناء محاكمته قال مانديلا: «أتوق للدفاع عن فكرة الديموقراطية والمجتمع الحر، الذي يعيش فيه جميع الناس معاً بتناسق وفرص متساوية، إنها الفكرة التي أريد أن أعيش من أجلها، لكن إن كان ذلك ضرورياً فإنها الفكرة التي سأكون مستعداً للموت من أجلها».
لقد كان مانديلا بالفعل أيقونة لشعوب العالم التواقة للحرية والديموقراطية والمساواة، وسيظل خالداً في الضمير الإنساني.
وليد الرجيب