كتاب سبر

في أولى مقالات الكاتب.. "محمد جاسر"
راقصة في المقبرة

– يا الله، توفى ورحل هكذا بلا إنذار مسبق! 
– يا الله، ماذا سنفعل؟ أين سندفن جثته العظيمة؟ 
 
– يا الله، ما هذه الكارثة التي حلّت علينا؟ كيف كان يقول لنا، أنا الصمد ولم يكن لي كفواً أحد؟ 
– يا الله، ما هذه الفاجعة؟ إن جسده المترهّل.. بارد جدًا الآن ويزداد زرقة بين الحين والآخر، كيف كان يقول لنا “مطلقٌ” أنا، لا أعرف القيود ولا اللحود؟ 
– يا الله، أتراه سيفتح عينيه مرة أخرى ويعيد لنا الحياة؟ حياتنا التي انتهت بمماته؟ 
– يا الله، كيف مات وتركنا نواجه مصيرنا، كيف مات أصلاً؟ 
– يا الله، كيف مات وما زال الوطن حيًا؟ ألم يقل لنا أنا الوطن و الوطن أنا؟ 
– يا الله، مدينة الخوف تسقط، والأهازيج تعم المدينة.
– يا الله، لن يرحمنا مَن لم نرحمه عندما كان حياً.
هذا النحيب البائس المذكور أعلاه لم يكن حوارًا بين أحد، لم يكن إلا حسرة أبدية.. حسرة لم تكن في الحسبان، فأتت مباغتة. 
مات الرجل القوي، مات الرجل الذي كان يرعى كافة أشكال الانتهاك الانساني، ابتداءً بالسرقات العملاقة وانتهاءً بالقتل العمد البشع. 
مات الرجل الحديدي الذي كان يمحق الرزق والحقوق ويقصي كلمة “لا” بكافة أشكالها بكل ما أوتي من قوة وجبروت وعنجهية.
مات عشيق الشيطان المفضّل، مات ولم يستفد من ذلك العشق سوى اللعنات الإنسانية المتتالية في كل أرجاء المدينة، ابتداءً بأطفال المدينة وانتهاءً بشيوخها العاجزين الذين كانوا سببًا من أسباب غطرسته بشكل أو بآخر بسبب عجزهم.
مات الراعي الرسمي لحقوق العهر والفسق والفجور الذي لم تكن تعرفه مدينة الخوف في السابق سوى في أروقة عهرستان.
لا علينا، تفضّلوا معي أعزائي القرّاء لأريكم مشاهد من مراسم الدفن وأحوال المقبرة.
تلقيت دعوة لحضور مراسم دفن الرجل الحديدي.. فلبيّتُ الدعوة، لبيّتُها لتتشرف ذاكرتي بهذا المشهد ولأنقلها لأبنائي الذين لم يولدوا بعد، ولأقول لهم أن والدكم الذي أمامكم حضر شخصيًا مراسم دفن مَن قتل مستقبلكم بماضيكم.
حضرتُ وأنا بكامل أناقتي و”كشختي”، حضرتُ لأقول للمقبرة إنني حي بعد مماته، وصلت لموقع الدفن العظيم، فتفاجأت بشيء ليس مهمًا بالنسبة لي.. وجدت إمرأة فقط تحمل جثته وتسوقها إلى القبر!
في الحقيقة لم تكن امرأة، لن أخجل منكم، كانت عاهرة محترفة.. كانت تسمّي أطفال مدينة الرعب بالدخلاء والغرباء الخ الخ …
قلت لها: مرحباً يا سيدة.
قالت: أنا لست سيدة، أنا راقصة مشهورة، كيف لا تعرفني يا هذا؟
قلت: أنا لا أهتم بهذا المجال.
قالت: حسنًا، لا علينا، هل تساعدني بدفن الرجل العظيم؟
قلت: أين الناس؟ .. ألا يوجد من يساعدك هنا غيري؟
قالت: لا … هذا الذي تشاهده ليس حقيقيًا في الواقع.. ولكن قبل أن أقول لك كيف، أرجوك أن توصل هذه الرسالة لمن يهمه الأمر.. ستشاهدون هذا المشهد لا محالة، ولكن يكفي هذا الرجل العظيم شرف أنه مزقكم إربًا إربًا.. والآن هيا إصحَ من نومك !
فسمعت صوت والدتي تقول: محمد تأخرت عن الدوام يا ولدي .. الشوارع زحمة وسيفصلونك إن تأخرت.
يا الله .. لقد كان حلمًا!
بقلم.. محمد جاسر