لقد آلمنا وآلم كل شريف في هذا الوطن كثرة الحوادث المروعة، وكثرة المشاكل التي تحدث في مجتمعنا ، وعن قريب الحادثة التي سفكت فيها دماء من أسرة واحدة، ولو فتشت عن الأسباب وتحققت من أصول القضية لعلمت أن المسألة تافهة، فظلام العقل سيطر على نور الحكمة، وتغلب الجهل على الحلم، وغاب الرقيب عن الساحة، وعلت مفاهيم خاطئة فوق ركام التخلف تدعي الرجولة تارة والكرامة تارة أخرى !! ففي جلسة أخوية ذابت فيها فوارق القبيلة وسلطان المال وأبهة المنصب، قد يدخل الشيطان من باب الكرامة فيزين لصاحبه أنك أعلى من فلان شأناً وأعظم قدراً فكيف ينتقدك أمام الناس أو كيف تنزل لهذا المستوى وأنت من أنت جاهاً ومالاً ورفعة، وهنا تبدأ بذور العداوة بين الجيل الواحد ؛ أهذه كرامة ؟ الكرامة لا تكون أبداً بين المسلم وأخيه المسلم، فكلنا جسد واحد وروح واحدة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ” المسلمون تتكافأُ دماؤُهم “. ولقد عبر النبي صلى الله عليه وسلم عن اللحمة القوية بين المسلمين وعن ذوبان الفوارق بينهم بقوله: “المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضاً”.
وكثيراً ما يتعرض الإنسان لمواقف وحواراتٍ تخرجه عن ثباته ووقاره، فيسلك سلوكَ من لا عقل له ولا فقه لديه.
فمن الناس من يغضب من كلمةٍ أومن فعلٍ ، لأنهُ يبدأُ في التفكير في الأمر الذي حدث أمامه، ومن ثمَّ يبدأ بالتحليل ، فإذا كان التحليل سلبياً فإنه يؤدي إلى الشعور بالغضب ، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” لا تغضب ” للرجل الذي طلب منه أن يوصيه، فهنا لا تغضب أي لا تجعل تفكيرك يؤدي بك إلى الشعور بالغضب فامنعه واقطعه بدايةً متجاوزاً ومتغافلاً عن الزلات والأخطاء ، فإذا تحولت الفكرة إلى شعورٍ بالغضب فهنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أرشدنا لمعالجة الغضب وتسكينه بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، وأن يتحول عن الحال التي كان عليها، فإن كان قائماً جلس، وإن كان جالساً اضطجع، وأن يتوضأ بالماء، وذلك قبل أن يتحول الشعور بالغضب إلى سلوك.
فمن الغضب العطب ، فقد تحدث أمور لا تُحمدُ عقباها فيندم وحينها لا ينفع الندم ، ولو تمثل الغاضب هذا الهدي النبوي ما تملك منه الغضب ناهيك عن القتل.
يا قومنا تخلصوا من هذه المفاهيم الخاطئة عن الكرامة وا?مانة والشجاعة والرجولة ولعلنا بفضل الله نقف على هذه المعاني الكبيرة لنخرج بها إلى دلالاتها ومعناها الصحيح ونصحح المفاهيم الخاطئة في حياتنا لنسمو فوق المفاهيم الأرضية ونحيا حياة كريمة طيبة .
وتتحكم في هذه الظاهرة مجموعة من العوامل وجملة من القيم إن توفرت في مجتمع تحققت له الصيانة وترسخ له الأمن والأمان ولعل أهم هذه العوامل:-
1-عوامل داخلية تتعلق بالفرد نفسه وتحكمه نزواته ورغباته وشهواته التي تدفعه إلى الدنايا وسفاسف الأمور.. فإن كان الإنسان غضوباً لا يتحكم في نفسه ولا يضبط انفعالاته وردود أفعاله صار كريشة في الهواء تحركها رياح الأحقاد حيث شاءت ؛ ومن هنا كانت التربية الإسلامية تربية منهجية وفعالة في نفس الوقت فهي تهتم ببناء الشخصية الإسلامية بناءً متكاملاً ، يقوم هذا البناء على مراقبة الإنسان لربه سبحانه أولاً وخوفه من عقابه وتجنبه لسخطه وعذابه فعندما يسمع الإنسان قول الله تعالى: ” ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً “؛ يكف عن هذه الجريمة ويقلع عن هذه الفعلة الشنيعة .
بهذا الهدي الرباني نحفظ مجتمعات المسلمين من أن يأكل فيها القوي الضعيف أو يتعالى الغني على الفقير أو يظلم فيها العظيم من هو أقل شأناً منه.
فدماء المسلمين تتكافأ وتتساوى في الإسلام مهما عظم شأن الإنسان أو قل فدماؤهم حرمها الله سبحانه وتعالى وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم ” المسلمون تتكافأ دماؤهم ” ، وقال أيضاً : ” لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يُصِب دماً حراماً “.
2-والمجتمع لا شك هو المحضن التربوي الكبير والمدرسة المهمة التي تعلم أبناء المسلمين مالهم وما عليهم فكلما كان المجتمع مترابطاً محتكماً إلى القيم النبيلة والمثل العليا والمبادئ القويمة كان معلماً بل ومربياً لأجيال عديدة ، وفساد المجتمع لا شك أنه خطر عظيم تكتوي الأمة بناره وتجني أشواك أفعاله ، وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى خطورة المحيطين بالفرد وأوقف صلاح الفرد أو فساده على أقرانه وأصدقائه الذين يمثلون جزءاً من بيئته فقال عليه الصلاة والسلام :” المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل”.
3- الأمن والأمان من أعظم النعم التي أنعم الله بها على المجتمعات وخصوصاً مجتمعنا فما قيمة العيش الرغد والنعمة الموفورة بدون أمن وأمان ، فإذا غاب هذا الركن انقلبت الحياة جحيماً ، ومن هنا ندرك الدور العظيم المنوط برجال الداخلية الذين حملوا على أعناقهم مسؤولية جسيمة وهي حفظ الأمن ومقاومة المجرمين ودفع الصائلين المعتدين ، ولعل للأمن دوراً عظيماً بجانب هذا الدور المهم غفل عنه كثيرُ من الناس ، وأحببت هنا أن أنبه عليه بعد أن أثمن دور رجال الداخلية قيادة وأفراداً الذي يقومون به ؛ وأقترح عليهم أن يقوموا بدور تربوي نفسي في علاج كثير من المشاكل وإنشاء دائرة خاصة لهذا الغرض متعددة الفروع والمكاتب في جميع المحافظات يتلخص دورها في دراسة المشاكل واقتراح العلاج المناسب لكل حدث أو ظاهرة بحيث يستمعون من الناس عن دوافع الجرائم في سرية تامة وأن يهبوا لعلاج هذه المشكلات بعيداً عن مواطن التحقيقات ووجود المجرمين الخارجين عن القانون فيقومون بذلك مقام الكبير الذي غاب عن بعض الأوساط ويجدهم الناس بأسرع ما يمكن في قلب الحدث يؤدبون المعتدي ويحمون المشتكي بسرية تامة من الأضرار التي قد تقع عليه.
فمن المعلوم أن القاتل ما لجأ إلى جريمته إلا بعد أن سدت في وجهه جملة من الأبواب إذا ولجها ابتعد عن جريمته وما أقدم عليها.
4- قال تعالى: ” ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون “.
متى كان القصاص رادعاً والعدالة ناجزة والعقاب سريعاً ارتدع كل ذي نفس مريضة، وفكر ألف مرة قبل أن يعتدي على أحد أو يقرب منه بسوء فما أقدم القاتل على القتل في بعض الحالات إلا لوجود عوار في القوانين وثغرات في التشريعات تجعل أي ماكر يهرب من العقاب وينجو من القصاص فالقاضي الماهر يعالج بفطنته عوار القوانين وثغرات التشريعات ليكون صمام أمان للمجتمع تحفظ به الدماء وتصان به الأعراض.
تلك أركان أربعة لابد أن تكتمل حتى يأمن الإنسان على نفسه وماله وعياله.
فتستقر بذلك نفسه وتهدأ روحه ويصون مجتمعه ويخدم بلده الذي ينتمي إليه.
وإهمال هذه المؤسسات والأركان الأربعة دون معالجات سريعة وفعالة قد يولد القتل والرعب وتمزيق النسيج المجتمعي.
وما المجتمع إلا جملة من الأفراد ومجموعة من الأسر والبيوت فمتى فقدت أحدها فالخسارة كبيرة تقع على المجتمع الذي يضيع أبناءه ويفقد لبناته واحدةً تلو الأخرى.
فهيا ننهض سوياً ونتكاتف لصيانة هذه الأركان السابقة ونقوم بواجبنا خير قيام في توازن واعتدال حتى ننعم بنعمة الأمن والأمان.
من كنانتي:
أفرغت شحنة غضب بغياب عقل راشد
فسفكت دماً حراماً وانتهكت صنعة الواجد
فساد الظلم وعمت الفوضى ، وهُزمت قوة المنطق ، وانتصر منطق القوة !
أضف تعليق