كتاب سبر

ضرورة استدعاء جمال عبدالناصر

قد يكون من المفجع أن يطلب الأحياء من الأموات إغاثة، كما أن التاريخ لا يعود إلى الوراء إلا بصورته الهزلية، لكن في لحظة تاريخية معينة، تحاول أن تغطي الهزل بالمثل القائل “للضرورة أحكام”، فعلاً هي ضرورة تبدو حتمية، فنحن نعيش في حالة من الانحطاط التاريخي الذي لم يسبق لها مثيل، فمن بداية الانهزام إلى نهاية طاعة الأمريكان، ساعة الزمن في الوطن العربي لا تتحرك أبدًا، فهي مصابة بشلل “الأنظمة” في المبنى على طريقة الجامعة العربية، وفي المعنى من الناحية الشعبية، فقد خرجنا من سياق العقل والتاريخ والجفرافيا، وأصبحنا نعيش في كوابيس “دراكولا”، فالقاتل يبرر القتل بدعوى الحاجة للدماء، والقتيل يهرب من هذه الحياة سعيدًا بالخلاص من جحيم “دانتي”، الحقيقة  إنها مأساة بمقياس “رختر” لكن هذا المقياس لا يصلح إلا للأمة العربية.
السؤال الذي أحاول أن اجيب عنه هنا هو: لماذا نريد استعادة الزعيم جمال عبدالناصر في هذا الوقت بالتحديد؟ فلم يكن الزعيم جمال عبدالناصر ديمقراطيًا كي يدير المرحلة الانتقالية ما بعد الثورات العربية، كذلك لم تكن السخرية من الرئيس مسموحة في زمن عبدالناصر، و بالتأكيد لم يكن عبدالناصر من محبي الاقتصاد الحر و الانفتاح الإقتصادي، إذن لماذا نقوم باستدعاء الزعيم جمال عبدالناصر في زمن ليس بزمنه، في حقبة تاريخية ليس له فيها ناقةٌ ولا حكم، في عهد سقطت فيه الأنظمة السلطوية وأصبحت ديمقراطية، في الواقع إننا نحتاج استعادة مشروع الزعيم جمال عبدالناصر، نريد استعادة الأحلام لا الأبدان، الأفعال لا الأقوال، استعادة حلم الزعيم جمال عبدالناصر بالوحدة والحرية والعدالة الاجتماعية، هذا الحلم الذي لم يخرج من سياق المطالبات الشعبية للثورات العربية، تلك المطالبات التي كان الزعيم جمال عبدالناصر يواصل الكفاح من أجل تحقيقها، مع إنه قد فشل في بعضها ونجح في بعضها الآخر، ففي النهاية هو إنسان يخضع لقانون البشرية، يخضع لقانون اللا كمال، يخضع لقانون التجربة، كل هذه القوانين جعلت الزعيم جمال عبدالناصر يسعى بكل ما يملك من قوة من أجل حلم جميل لم يسعفه الوقت كي يشاهده يتحقق كاملاُ، لكن على الأقل تحقق منها الكثير.
الناصرية لا تعرف بأنها مجموعة من الإنجازات التاريخية أو الخطابات الجماهيرية للزعيم جمال عبدالناصر، كما أنها لا تعني ممارسات قد تكون خارجة عن سياق حركة التاريخ، إنما الناصرية هي مجموعة من النظريات المتصلة بحركة الواقع والمتجددة عبر الزمن، تؤمن بالمنطق الجدلي لحركة التاريخ، المتفهمة لطبيعة الصراع الاجتماعي والتباين الطبقي، كما تساهم بخلق مجتمع وطني واعي قادر على فهم وإدراك حركة التطوّر التاريخي والاجتماعي، ذلك فإن الناصرية تنطلق من هويتها العربية القائمة على أساس اللغة والتاريخ والجغرافيا والمصير المشترك، ومن هذا المنطلق فإنها تسعى لوحدة الأمة العربية بجميع أقطارها، رافضة لكل أنواع التبعية للدول الكبرى والأمبريالية وتعلن العداء الصريح للصهيونية المغتصبة للأرض الفلسطينية، كذلك فإن الحركة الناصرية تؤمن باشتراكية الاقتصاد القائم على التوزيع العادل للثروات والتخطيط المركزي وخلق وسائل إنتاج تساهم في بناء تنمية وطنية، رفض كل أنواع الإقطاع والاستغلال الطبقي، إذن فإن الناصرية هي مجموعة من النظريات كرستها تجربة ثورة 52 يوليو بقيادة الزعيم جمال عبدالناصر.
لا أدعي ذلك انحيازاً أو انتماءً للناصرية، بل إنني أثبت واقع تعايشنا معه إبان الثورات العربية، فلقد كان الزعيم جمال عبدالناصر حاضرًا بقوة من حيث الهتافات والشعارات، كما أنه الزعيم التاريخي الوحيد الذي رفعت صورته في جميع الأقطار العربية بلا استثناء، هذا الأمر ليس اعتباطًا أو صدفة، بل هو ترسيخ لمبدأ الارتباط القومي بين الشعوب العربية، فهي تستحضر زعيم القومية العربية، وأول من أخرجها من الكتب إلى الواقع، كي يخرج الأمة العربية من ظلال الاستعمار واللا هوية إلى نور الاستقلال والعروبة، لقد كان حضور الزعيم جمال عبدالناصر نصير الفقراء دلالة على حنين الشعب العربي للعدالة الاجتماعية وإسقاط الفروق الطبقية التي جعلت الشعب منقسم بين معدومين ورجال أعمال، بين أفقر شعب و أغنى طبقة، في كل هذه التناقضات في الحالة العربية تواجد الحلم الناصري بين الجماهير، تواجد بسبب توالي الانتكاسات وغياب العقل عن الحياة، فقد عاش الشعب انتكاسات حكم أنور السادات حيث الاستسلام و الانفتاح الإقتصادي المشين حتى تم تجريف ونهب مصر بكل ما تحمله الكلمة من معنى تاريخي، وصلنا إلى ديكتاتوريات ادعت القومية العربية تمسحًا بعاطفة الشعب العربي بالوحدة والاستقلال، فقد شاهدنا عائلة صدام حسين وعائلة الأسد، قمة في الديكتاتورية و ترسيخ مبدأ حكم العائلة، حكم النهب و السلب مع سبق الإصرار والترصد، ومن ناحية أخرى أنظمة ضائعة في بحر الظلمات مثل معمر القذافي و زين العابدين بن علي وعلي عبدالله صالح.. أنظمة لم تخرج من سياق الجريمة المنظمة حتى أصبحت أقرب لمشاهد أفلام “المافيا” على طريقة هوليوود، قابلها خضوع تام للبيت الأبيض المقدس في واشنطن، وغياب عقلي فاضح للقضية الفلسطينية، مع كل هذه العوامل من انحطاط في السياسة والاقتصاد، يقابله سقوط هذه الأنظمة واحدًا تلو الآخر، فإن عبدالناصر ارتفع مرة أخرى وكان حاضرًا أكثر بكثير من سنوات ما قبل الثورات العربية، هذا الأمر لا يفسر إلا بطريقة موضوعية، بحيث أن الجماهير العربية لا تبحث عن استنساخ كاريزما عبد الناصر أو بطولاته، بل هي تسعى لإعادة المشروع الذي قد ينتشلها من حالة البؤس واليأس و الفقر المزمن، مشروع يعيد لها كفاح بناء السد العالي ونضال تأميم السويس، وهنا كذلك لا استنسخ ما قام به عبدالناصر دون الأخذ بالتحولات التاريخية التي مر بها العالم أجمع، لكن بمعنى أن يكون هناك استعادة لإرادة تحقق ما كان من المفترض أن يحدث من تقدم في مجال الصناعة والاقتصاد والتكنولوجيا.
في النهاية أقول.. نعم لاستدعاء جمال عبدالناصر المشروع القومي، فهو المشروع العربي الوحيد الذي استطاع أن ينهض في الاقتصاد والتكنولوجيا حتى أصبحت مصر رأسًا برأس مع كوريا الجنوبية في معدلات التنمية، نعم لمشروع الوحدة العربية لتجميع شتات الوطن العربي الممزق، نعم لدولة الهوية لا الدولة الطائفية، نعم للدولة الجامعة لا الدولة الهادمة، نعم للتحرر الوطني لا للاستحمار الغربي، نعم لمشروع لم يتحقق بعد لكنه سوف يتحقق بإرادة كل جماهير الشعب العربي.