كتاب سبر

منذر الحبيب يعود بالذاكرة إلى أصل القضية
دفاتر الجنسية.. مجرد كرت الزيارة

في خمسينيات القرن الماضي ولد صديقي، كان الإبن الأصغر لشيخ طاعن بالسن كسا لون الرماد لحيته وحاجبيه في قرية الكوت البحرية. والده قضى شبابه في صراع مع الصحراء الممتدة بلا حدود. يدلل الإبل التي يمتلكها بالترحال في المراعي المتلونة في الربيع، الشوكية في الصيف، ورصاص الغبار يتناثر بها في الخريف. يحمل البندقية وهي رمز الشجاعة في الصحراء والتي لا يعرف معناها الصناع والتجار في المدن. يملؤها بالبارود ساعة كي يدافع عن نفسه من غزاة يسمون صعاليك المدينة، و في ساعة أخرى، يهاجم نظراءه في الصحراء لتحسين وضعه التفاوضي على مرعى أو بئر للماء، فإما يحصل على يوم له أو ساعات يقتسم بها الوقت في تلك الأراضي المشاع التي لا سلطان قانوني أو سياسي عليها.
 
في هذه البيئة، تقل القيود و تزيد الحرية، الفضيلة مقدسة، فالشجاعة ترتقي بصاحبها ليكون من فضلاء الصحراء، و الكرم ينسج شبكة الأمان للأقوام المحيطة، والأدب والشعر سقفهما السماء لا حدود للحرية، وبذلك تتحول إلى أقمار صناعية إعلامية تحملها الرياح لتشكل كثباناً قيمة من تراث الحياة. في بدايات القرن العشرين، استقر والد صديقي بإحدى القرى المشاع الواقعة بأطراف الصحراء، و التي تعتبر امتدادًا للصحراء وليس العكس.
استقرار والد صديقي كان جزءا من ولادة تاريخ جديد ومفاهيم حديثة من إرهاصات دخوله القرية ولادة جيش للقرية يعتمد على فضائل الصحراء الجريئة لحمايتها، في حين أن الصناع يقومون بالإنتاج لتطوير القرية والتجار يقومون باستيراد ما يغذيها، تبادل هذه الوظائف و تكاملها نفث الهيبة في قلوب القرى المجاورة ووضع لبنات الطين لمدينة طرية كانت تتماسك تدريجيا مع رياح الإنسان الورقي الذي سبق الإنسان الرقمي.
مع مولد صديقي، بدأت توزع دفاتر صغيرة الحجم عظيمة الأهمية لم يدرك أهميتها الكثيرون لحداثتها، كتب عليها بخط الرقعة على الغلاف “جنسية”. ينقل صديقي عن والده، أنه قال: كانت الأرض مشاعاً، هويتنا فضائلنا، انتماؤنا كرمنا، شجاعتنا حارسنا، كرامتنا رأس مالنا. لكن بعدما أصبحنا ورقاً، يضيف والد صديقي، أصبحنا منظومة جديدة، هويتنا ورق، وظيفتنا ورق، طبقتنا ورق، و كل حقوقنا نأخذها من هذا الورق. أتعلم لماذا قبلنا بهذا الورق يا بني؟ لماذا؟ يسأل صديقي باستغراب؟
 
لأنه عقدٌ و اتفاق لا هوية ولا انتماء، لأنه ورقٌ تنظيمي تعاقدنا عليه شيعاً وجماعات حتى نحسن من عملية نهضة المدينة، هذا ما قالوه لنا وأقنعونا به بعد فهمنا الذي ذكرته لك قبل قليل. الورق هو العقد والحقوق، لكن هذا الورق يحمل سماً بين طيات صفحاته، لم نره آنذاك لأنه مدسوس بين بداية ونهاية أسطر القوانين، سكب السم على الصفحات البنية وأعطى طرفاً واحداً من هذا الاتفاق حق إشعال هذا الورق وحرقه في حين أن هويتنا في السابق لا ينتزعها حتى الموت لأن التاريخ لا يسلب منك الهوية.
 
يقول صديقي، استوقفت أبي هنا و سألت مستفهماً: أي سم يا والدي؟ و كيف كان اتفاقا وعهداً فأصبح هوية؟
 
السؤال الثاني مفتاح لفهم السؤال الأول و سأبدأ به. هذا الدفتر الصغير هو إسمنا الجديد وقبيلتنا الجديدة أمام قبائل العالم، كبرت القبائل فسميت دول، و تعقدت التعاملات فسميت هويات وطنية، فطوّرت الدار عند العرب قبل الإسلام أو المؤتمر عند القبائل قبل 70 سنة و التي كان الرجال يتشاورون فيها لإدارة القبيلة فأصبحت برلمانا في العصر الحديث. فكان قرارهم الجماعي في القبيلة المبني على تصادم الآراء و تعانق الخبرات لوناً مكملا للهوية التي تدفعهم للدفاع عنها وعن عقلهم الجمعي، كان الشخص الذي يملك الفضائل الصحراوية النبيلة والدراية العميقة قائداً للرأي، بينما، أجوف الخلق، مائع المنطق، أهوج القرار في عداد الرعية.
 
بعد دفاتر الجنسية، انقلبت ساعة الزمن، و ذاب قرار القبيلة بيد موزع الدفاتر تدريجياً. فبدل الدار والمؤتمر قامت قصور فضيلتها النفط وقرارها ينبع من جين فرد واحد فقط. حبه هو الهوية ومصلحته الشخصية هي مصلحة الوطن العليا. رغم أن هذه الدفاتر كانت منظمة عند الدول الأخرى إلا أنها عندنا أخذت شكلها الورقي فقط بل زادت وأصبحت سماً.
 
 
لم أفهم كيف أصبحت سماً؟ سأل صديقي والده.
 
ستفهم مع الزمن؟ قالها ورحل في بداية صيف السبعينيات الساخن.
 
ينظر صديقي إلى انحناءات تلك الدلة الذهبية الباهته التي أكرمت الضيف ولبّت فناجينها حماية المستجير الحائر، في أواخر العشرينيات من عمري بدأت أفهم معنى كلمة السم في جملة والدي، يقول صديقي: بعد وفاة والدي عام 79 ظهرت وتعالت موجات المطالبة بالمساواة في الحقوق بين المواطنين وتدفق الضغط الشعبي لإعادة الحياة البرلمانية التي انقطعت صيف عام 76. على ضفاف شاطئ بحيرة النفط المستبدة، تقع منطقة شرق، التي تحتضن مسجد شعبان الذي تبنى بين القبة والمنارة المطالب الحقوقية للحركات المعارضة من إسلام سياسي شيعي إلى يساري من قومي و عروبي ..إلخ.
 
تجهم وجه السلطة المقفهر من هذا الانصهار بين هويات المجتمع الذي تمخض عنه هوية واحدة هي المطالب. فحشدت السلطة القوات ورفعت خراطيمها بوجه الندوات لترشها بمياهها الظالمة، وأعلنت بحربها لأول مرة أن دفاتر الجنسية هي عبارة عن كرت زيارة.
 
يرتشف صديقي الشقراء التي بين يديه ويسترسل في ألم التاريخ قائلاً: أعلنتها السلطة صراحة، أن لا فرق بين دفتر تأسيس أو دفتر تجنيس فكلاهما غرضه الزيارة المؤقتة فقط.
 
آنذاك، كان خطيب المسجد السيد عباس المهري يلقي خطابات الحقوق بجانب خطابات الدكتور الخطيب وسياسيين آخرين. فعوقب السيد المهري بحبس إبنه أحمد، لحق إجراء الحبس إجراء آخر و هو حيلة كرت الزيارة، فقد قامت السلطة بتحويل “فذلكي” لجنسية المهري من حالة التأسيس إلى حالة التجنيس ومن ثم سحبها عنه وعن أبنائه لتنتهي بذلك مدة الزيارة لعائلة السيد عباس، انتهى كرت الزيارة لشخص آخر وذلك عن طريق سحب دفتر الجنسية لأحد المعارضين القوميين وأحد مؤسسي جمعية المحامين وعضو مجلس 75 النائب خالد خلف التليجي، تهمته الملفقه كانت ازدواج الجنسية التي ذكرت السلطة الكويتية أنها حصلت على معلومة خاطئة من السلطات العراقية أن خالدًا يحمل جنسيتها، بعد إثني عشرة سنة رد له كرت الزيارة المسمى جنسية بعد اكتشاف الخطأ.  
 
للقيام بمراسيم انتزاع وإنهاء كرت الزيارة أخرجت السلطة دفوفها لعزف مقطوعة تعبئة علب الرؤوس الفارغة بمحلول العزل الاجتماعي بصوت كورال الغربان المريضة. تنشد الغربان: “طارئون، مزورون بيننا، لا يستحقون العيش في البلدِ، مذهبهم شرٌ، عرقهم مختلفٌ عنا، الحّل واضحٌ بسحب الدفترِ”. يقال أن الجن خط هذه الكلمات للمسؤولين وذلك لتوسوس في صدور الناس، فيدب الحقد في عروقهم وتقود الكراهية أفعال المتعلم قبل العامل والكنّاس.
 
يا لمهالك الصدف، شيخ دين و نائب تسحب جناسيهم في الماضي، وشيخ دين و نائب و رئيس تحرير صحيفة (خالد الخلف أيضاً كان رئيس تحرير صحيفة الشعب) مجموعة من الأفراد تسحب جناسيهم في زمننا الحاضر. قلت في نفسي، وهمت أفكاري تتصفح التاريخ، كان ذلك في عام 79 لردع المعارضة، إستجاب جزء واختلف الجزء الآخر عن الدخول في برلمان 81، هذا هو خط المقاومة الفاصل الذي لم تتجاوزه المعارضة في ذلك الزمن، فدفعت المدينة الثمن. أن تعاد الكرة، لا يعني أن تعاد الأخطاء، تعطيل هذا السلاح بمقاومته وليس بالاستجابة له وإلا سيعاد استخدامه في المستقبل، و تعاد كوارث مجلس 81. آه … تذكرت .. بقيت خطوة بعد إنهاء زيارة من سحبت دفاترهم، إنها مرحلة تنقيح الدستور.
 
ينظر صديقي إلى الإطار المعلق على وسط الحائط والذي يحمل صورة الشهيد مبارك النوت، ويضيف: أتعلّم أنه قبل أيام من يومنا هذا ذكرت حادثة مسجد شعبان في مجلس السلطة لتأصيل فعلتها المشينة. فمن نصح السلطة ذكرها بالحادثة وقال لهم لقد افترقت المجاميع ودب الخوف والاستسلام في قلوب الجمهور وتشردت الأسر التي انتهت زيارتها للكويت لعدة سنوات، فلنُعِد الفعلة وسيعيد هؤلاء الزائرون الطارئون فعلتهم. قلت في نفسي ما أغبانا إذا أعدنا نفس الكرة ففي هذه الحالة السياسية المعقدة يكون السكون بمثابة دعوة السلطة للاستمرار والإقدام لمقاومتها رادعا.
 
إن صدري ليغلي، و إن عقلي ليهذي، كم هو حجم الألم الجاثم على صدري. ها هم بعد 35 سنة من تلك الحادثة البشعة التي نشرتها وسائل الإتصال الأبوي الأحادية تعود الآن بإسقاط وسحب -مع من يتبعهم- نحو 130 فردا في وجود وسائل الإتصال الإجتماعي.
 
قال صديقي هذه الكلمات وعيناي تنظران في عينه التي تحولت إلى جمرة في ليلة مظلمة مع بداية الشهر العربي. في قلبي سؤال لا يستطيع المرور من قفصي الصدري، همس في قلبي يسأل صاحبي كيف لي أن أسترد لك حقك؟ مجسات طبلة أذني تنهل غضب براكين لسانه.
   
قال صديقي: أسقطوها عنّا! كنا قبائل وأردنا بناء دول، فمزق لنا الدهر الاثنتين. من سجد لخوفه، امتطى الظالم ظهره، و قال شعراؤنا في ذلك:
 
والولد في شبابه راس عذروبه
كان ما هوب يلطم كل من عالي
 
قالها بحرقة وأضاف: إني أتجرع السم الذي نطق به والدي، هذا المسمى جنسية كان حريا بهم أن يطلقوا عليه كرتاً للزيارة، فنحن “كمواطنون” نقوم بوظائفنا التاريخية لنبني وطناً وأرادونا بهويتنا القديمة بدفاتر الزيارة الورقية الحديثة، تنتهي متى ما أراد القصر مسح الهوية.
 
صمت صديقي بالتزامن مع تسرب أصوات كورال الغربان المريضة إلى آذاننا وهي تنشد “طارئون، مزورون بيننا، لا يستحقون العيش في البلدِ، مذهبهم شرٌ ، عرقهم مختلفٌ عنا الحّل واضحٌ بسحب الدفتر”
 
بقلم.. منذر محمد الحبيب