آراؤهم

التمايز بين الفكر التنويري والفكر الظلامي

إن من أولى نتائج المخاض العربي، والعواصف السياسية التي تجتاح اليابسة والماء والصحارى الشاسعة، الحاجة الملحة إلى قراءة فلسفة عصر التنوير، ونشر الفكر التنويري من المحيط الأطلنطي إلى الخليج العربي. وذلك نظراً لهذا الظلام الذي بدأ يغطي نصف سماء المنطقة، ويزحف في الأتجاهات الأربعة. ولا يوقف هذا الزحف والأمتداد والتغلغل في جيل الشباب إلاَّ نشر الفكر العلمي، ونبذ الفكر الظلامي. فالشباب يشكلون 60 في المئة من المجتمعات العربية، وهم الأكثر جاذبية وأستيعاباً وتقبّلاً للجديد، والأكثر معاناة  ومقاومة. وقد تعرَّض شباب الأمة في العقود الثلاثة الأخيرة لأسباب عدة، إلى هجوم منظّم من الدعاة السلفيين التكفيريين (الجهاديين). وأستطاعوا أن يضموا إلى صفوفهم شريحة شبابية واسعة، خاصة من الجهلة والأميين والعاطلين من العمل.
وإن مهمة نشر الفكر التنويري، هي مسؤولية وطنية تاريخية قومية، تقع على عاتق القوى السياسية الوطنية والديمقراطية والعلمانية بشكل عام. وعلى عاتق المثقفين العرب والمؤسسات الثقافية التقدمية العربية.
لقد مرَّت أوربا بمراحل ثلاث، وأنتقلت من ظلام العصور الوسطى إلى عصر النور. فجاء عصر النهضة والإصلاح الديني في القرن السادس عشر. وأُطلق عليه (عصر إيراسموس ولوثر). ثم جاء عصر الثورة العلمية الأولى في القرن السابع عشر. وعصر التنوير في القرن الثامن عشر.
إن عصر التنوير أو عصر العقلانية، هو حركة ثقافية تاريخية، وهي عملية إنتقالية معقدة. حققت منجزها الحضاري التقدمي، بعد تقديم ملايين الضحايا وأنهار  الدماء للوصول إلى ما وصلت إليه الآن.
هناك حدود واضحة تماماً وخط يفصل بين النور والظلام. فالتنوير كما جاء في لسان العرب هو (وقت إسفار الصبح. ويقال نوَّر الصبح تنويراً). وجاء في المعجم الوسيط (أستنار: أضاء. ويقال: أستنار الشعب: صار واعياً مثقفاً. و- به: أستمدَّ شعاعه. و- عليه: ظَفِر به وغَلَبه. 
لقد نقل رواد النهضة العرب من (مصر وبلاد الشام) الذين درسوا في جامعات أوروبا، ثقافة التنوير والإصلاح في مطلع القرن العشرين. وركزوا على قضايا التحرر والمرأة والاستغلال والحرية. وواجهوا مقاومة مضادة من الأنظمة السياسية  الأستبدادية العربية التي تُوجَّهُ وتُقاد من الدول الاستعمارية الغربية.
ورغم التطور الذي وصل إليه العالم، وما حققته الثورة الثالثة من تقدم وتطور، لا يزال هناك عالم آخر يحتل مساحة واسعة في قارتي آسيا وأفريقيا، يساوي بين العلمانية والإلحاد. ويرى رواد الظلامية الأمور بعين واحدة. ولا يميزون بين النور والظلام. ويعملون ويعيشون ويتعاملون مع ظواهر مضى زمانها منذ قرون. وهذه الظواهر المتفشية في المجتمعات العربية، وتشكل خطراً سرطانياً عليها، فهي ظواهر تكبح التفكير العلمي. وتبني معطياتها على ثقافة متخلفة، تأسست على الخرافة والجهل والطائفية والعشائرية والانغلاق الفكري وعدم قبول الآخر والجلوس معه على طاولة الحوار. وترديد النصوص الجامدة غير القابلة للنقاش، بأعتبارها كما يرى هؤلاء نصوصاً مقدسة لا يمكن الأقتراب منها ومسّها أبداً.
لقد مهَّد الإصلاح الديني في أوروبا الطريق نحو العلمانية،وأقتلع من جوانبه الأعشاب الضارة. وغرس بدلاً منها النباتات والأشجار النافعة، التي أسست لعملية الفصل بين السلطة الروحية والسلطة المدنية، أي (الفصل بين الدين والدولة). ولا تزال هذه المسألة في مرحلة التجاذب والتنافر بين طرفي الصراع.
وقد مرت العملية الأنتقالية في الدول المدنية العلمانية المتطورة بثلاث مراحل. ففي المرحلة الأولى نُزعت الصبغة الأكليروسية عن المسيحية. وفي المرحلة الثانية نُزعت الصبغة القدسية عن السلطة الدينية. أما في المرحلة الثالثة فقد تمَّ تأكيد الحقوق الفردية، وشرعنة التعددية. كما تمَّ التأسيس لحرية الوعي والتفكير، وصولاً إلى الفصل بين الكنيسة والدولة.
ولا يزال الرجعيون والبرجوازيون والحاقدون على الشيوعية والعلمانية يبثون سمومهم. ويغيرون المعنى العلمي لتفسير مقولة ماركس (الدين أفيون الشعوب)، منذ مئة وسبعين عاماً. وفسّر ماركس قصده من هذا القول، بأنه يقصد المؤسسة الدينية وليس الدين. ولم يقصد تديّن الناس، بل هذه إشارة إلى تسييس الدين، وأستخدامه أداة ضغط وتسلّط سواء من السلطة أو من أية شريحة أو فئة، تجعل من نفسها قيّماً على دين الناس، ومرجعاً أعلى لتفسيره والعمل بموجبه.
وإن المنطقة العربية والخليجية تتعرض لغزو سلفي- جهادي – تكفيري. وما يجري في سورية منذ أعوام  يبين مدى التخلف الفكري المصدَّر إلينا، والبعد عن المنجزات العلمية للعصر. ويتصاعد الصراع بين الاتجاهين (التنويري الديمقراطي التقدمي، والاتجاهات الإسلاموية السلفية الظلامية) كما في تونس ومصر والعراق وهذا يتطلب من المثقفين العرب من مختلف أتجاهاتهم الماركسية والليبرالية والوطنية الديمقراطية، نشر الثقافة العلمانية التنويرية. وقطع الطريق على مشيخات الفتاوى التي تعيش في عصور ما قبل التاريخ !