كتاب سبر

بقلم.. منذر الحبيب
المجتمع المدني والقبيلة

يقول فوكوياما في كتابه “the Origins of Political Order” أن مفهوم الدولة الحديثة والذي يطلق عليه العرب مفهوم الدولة المدنية مفهوم يمتد إلى ما قبل الميلاد وبدأ في الصين، فكانت الصين آنذاك تعتمد مبدأ الكفاءة بدلا من القرابة وأواصر الدم، لكن هذا المفهوم لدولة المدنية يختلف جذريا عن مفهوم المجتمع المدني. 
ففي حين أن فوكوياما يتحدث عن أجهزة الدولة (التنفيذية، تشريعية، قضائية) ومسافتها المتساوية بالتعامل بين مواطنيها، فإن المجتمع المدني له تعريف آخر وهو مجموع المنظمات والتجمعات التي تعيش على أرض واحدة وتمارس أنشطتها في الفضاء العام للدولة.
يعني  المتدينين في المجتمع لهم منظماتهم وأنشطتهم التي تعتمد على رابط الدين، والقبيلة لها انشطتها وأواصرها وأفعالها التي تعتمد على رابط الدم أو الأحلاف التاريخية والتراث المشترك، و العائلة أيضًا كنواة للمجتمع تخضع لنفس المفهوم، كذلك المؤسسات الأخرى كمنظمات البيئة وحقوق الإنسان والأحزاب تتشارك مع المؤسسات الدينية والمنظومة القبلية في التفاعل في الفضاء العام، لكن تختلف أهداف هذه المؤسسات وروابطها. 
وبالنسبة للقبيلة، فقد تطوّر مفهومها عبر التاريخ إلا أنه لا توجد دراسات أكاديمية تتحدث عن تطورها السياسي، لكن نستطيع القول أن القبائل في الخليج وما قبل ظهور المشيخات كانت القبيلة وحدة سياسية متطورة إلى حد ما، أصابتها نكسة بعد ظهور هذه المشيخات، فلم يتح لها أن تطوّر مفهوم القبيلة السياسي ولم يراد لها أن تندمج في المجتمع بطريقة تلقائية، بل حولت القبيلة كوحدة لخدمة السلطة عن طريق خلق رأس للقبيلة يتم التعاطي معه كمندوب لاحتواء أفراد قبيلته، في حين أن القبيلة لم تكن تعرف هذا المفهوم في السابق. 
فقد كان كل فرد في القبيلة يمارس دورا تشاوريا ورقابيا يصل إلى حد عزل أمير فخذ في بعض الأحيان، و كانت القبيلة تشكّل في بعض الأحيان تحالفات سياسية بين مجاميع متعددة ولا يجمعها رابط الدم (مطير-ظفير) على سبيل المثال.  
أما إمارة القبيلة فكانت تنتقل من شخص إلى آخر بشكل مغاير جدًا عن ما هو موجود في المشيخة، فالقبائل تنتقي أمير القبيلة من صفاته كأن يكون شجاعًا وصاحب رأي وحجة، هذا في أغلب الأحيان. 
وإذا فقد أمير القبيلة صفات القيادة، تسقط منه إمارة القبيلة وتنتقل إلى شخص آخر، إما من نفس الفخذ أو من فخذ آخر من نفس القبيلة، بينما نظام المشيخة و هو نظام المدن القديم كانت تنتقل فيه السلطة سلاليا، أي من الجد إلى الأب إلى الحفيد.
هذه المظاهر المكونة للقبيلة في الماضي كانت تعبّر عن وحدة سياسية فاعلة، وليست وحدة اجتماعية تقوم بوظائف خدمية لسلاطين، كما حصل لها عندما دخلت تحت المنظومة المشيخية الجديدة او سمها دول إن شئت، فما حصل ما بعد ظهور المشيخة هو تطويع القبيلة و منعها من تطوير مفاهيمها السياسية مما يؤدي إلى عدم اندماج أفراد القبيلة داخل الدولة “المفقودة حاليًا”. 
و مع وجود فراغ في المجتمع السياسي، تظهر القبيلة كفاعل في الحياة العامة، وإذا كان هناك خوف من البعض له تبريره، فيجب تصحيح مفهوم ما هو قبلي و ما هو غير قبلي، فمفهوم القبيلة السلبي هو أن تستخدم لغة من القبيلة لإلغاء الآخر وكذلك استخدام القبيلة وتوظيفها لمصلحة خاصة أو كرسي نيابي. 
أما بيانات التضامن العامة والتي تحتوي على مشاركة من مكون مجتمعي لرفع ظلم أو ضرر عن أفراد من عدة مكونات فهو لا يدخل تحت مفهوم القبيلة السلبي، بل تفاعل مكون اجتماعي إيجابي في الفضاء العام، وثانيا لا تدخل هذه البيانات في فكرة خلق ضرر يحرم المكونات الأخرى من حقوقهم المتساوية كضرر الانتخابات الفرعية مثلا.
وهذا هو الفرق الجوهري الذي يكون بين تفاعل وحدات المجتمع مع بعضها البعض في الفضاء العام، فتفاعل القبيلة بشأن العام لا يكون عن طريق تشكيل أحزاب عرقية قبلية ولا عن طريق تنظيم انتخابات فرعية، فهذا سيدخل في باب القبلية السلبي، أما تفاعل القبيلة مع الأحداث العامة أو أمور ظالمة وقعت عليها، فهذا أمر يدخل في إطار التفاعلات المجتمعية التي لا يخلو أي مجتمع منها. 
فعلى سبيل المثال، في الولايات المتحدة هناك قبائل لها تجمعاتها وتنطيماتها وتتفاعل مع المجتمع، و في أوروبا يوجد مؤسسات دينية لها حريتها في إظهار رأيها في الفضاء العام وخاصة في حالة وقوع ضرر على المكوّن الاجتماعي الذي تمثلة، فكثير من البيانات صدرت من مؤسسات دينية على واقعة “شارلي إيبدو” والصور الدنماركية على سبيل المثال، تمثل تفاعل مكون اجتماعي ضد ضرر لحق به، لكن هذه الممارسات لها حدود كالقوانين و المسؤولية الملقاة على الأشخاص المنتمين لهذه الجماعات. 
وختاما، اتفهّم التخوّف من تحول القبيلة إلى حزب سياسي، واتفهم من فهم بيان مطير على انه ردة سياسية مع اختلافي مع هذا الراي، واعتقد أن بيان مطير يدخل في التفاعل المجتمعي في الفضاء العام وهو المفهوم الإيجابي في تفاعل المكونات الاجتماعية، كما ان هذا التفاعل لا يدخل في مفهوم القبيلة السلبي وأقصد به تنظيم الفرعي أو تشكيل حزب سياسي قبلي، منع التفاعل الإيجابي لمكوّن اجتماعي خوفا من استخدامه استخدام سيئ، كمن يمنع هاتف محمول ذو كاميرا خوفا من استخدامها استخدام خاطئ، لأن كلا الأمرين يعتمد على الخلط بين مسؤولية الأفراد في احترام ممارستهم للحرية وبين فعل مجرّم ربما يرتكب نتيجة الاباحة أو ممارسته للحرية الغير مسؤولة، لذلك أن ندرك هذا الحد الدقيق الفاصل بين حرية الأفراد والمجاميع في أفعالها التي تعتمد على مسؤولية من يقوم بالفعل المباح وبين الفعل الذي يسيء صاحبه استخدام الحرية بشكل غير مسؤول، ففي حالة بيان مطير يجب ان يفصل بين فعل بيان مطير الذي هو فعل من أحد مكونات المجتمع لرفع ضرر دون إقصاء الآخرين يمارس في الفضاء العام، وبين تحويل القبيلة إلى كيان سياسي كحزب أو انتخابات فرعية مثلاً، هذا الاختلاف هو خيط رفيع جدًا.
بقلم.. منذر الحبيب