كتاب سبر

كما انتهت الناصرية والشيوعية والبعث.. حكم ملالي إيران انتهى

لماذا يعجز العقل الشمولي عن تصور أن إيران ستكون أرقى وأجمل وأقوى من دون نظام الملالي، بل إن المذهب الشيعي نفسه سيكون بحال أفضل؟.. وهل ينفرد العقل الإيراني الحاكم حاليا بهذا الوضع؟.. وهل الشمولية المستندة إلى الدين تختلف عن الشمولية التي تقوم على المبادئ الوضعية؟
أولا ما هي الشمولية؟..
الشمولية وفي تعبير آخر (الكُليّانية)، دولة تفرض سيطرتها على المجتمع في كافة جوانب الحياة الخاصة والعامة، في نظام حكم مختلف عن الفردي (السلطوي) لكن بتماثل معه في السعي للتحكم بالاقتصاد والتعليم والفن والأخلاق، فإذا جاء وقت ضرب الأمثلة مثل بالمقدمة أنظمة النازي والفاشي والشيوعية.
ولعل أول من حقق وصفا للشمولية هو جيوفاني جنتيلي المنظر الأكبر للفاشية، فعرّف النظام بأنه مجتمع تؤثر فيه آيدولوجية الدولة والسلطة على معظم المواطنين، وتبنى هذا الزعيم بنيتو موسوليني معتبرا أن النظام يسيّس كل شيء روحي وبشري.. فـ “كل شيء داخل الدولة.. لا شيء خارج الدولة.. لا شيء ضد الدولة”.
وسيجد الباحث كثيرا من تعليل الشمولية ونقدها في كتاب كارل بوبر “المجتمع المنفتح وأعداؤه” ودون أي شك فإن في كتاب الكواكبي (طبائع الاستبداد) إغناء مهم للمسألة في جانبها الشرقي عربيبا وإسلاميا.
وعند كثير من الفلاسفة فإن الأنظمة الشيوعية والنازية كانت أشكالا جديدة من (الحكومة)، وليست مجرد نسخ مجددة لنظم طغيان قديمة، ولكن تعريفات المفكرين تجمع على أن الشمولية هي السعي إلى تعبئة المواطنين لدعم أيدولوجيا الدولة الرسمية، من دون تسامح مع النشاطات التي لا تخدم أهدافها، والغالب أن الشمولية تتحول مع الوقت أيا كان مبدؤها لعبادة شخصية تتركز في يديها كافة السلطات ولا يمكن مناقشتها أو عزلها!
وهي – الشمولية – ليست مبدأ بشريا عاما يتسع لكل الناس بل انتقائية تستبعد غيرها أو تكفره أو تخوّنه أو تعتبره غير وطني، ويتم ذلك حتى ولو طوّر القائد أو الزعيم كاريزما عبادة شخصيته عبر نظام شبه ديمقراطي يعتمد على رابطة متبادلة مع الشعب والأنصار، مستندا إلى حدود مطلقة للسلطة بمفهوم القائد الرمز وبفكر ثابت يرفض التعددية ويتعايش مع فساد مرتفع المستويات.
لكن الفشل هو مصير كل نظام شمولي مهما بلغ من القوة، فهو نظام هش وضعيف يقوم على فهم باطل وغير مقنع للكافة رغم مشاهد البهرجة والقدرة على التحشيد بما  يطمس دور الأغلبية الصامتة، أو المأخوذين وراء النظام لعدم وجود خيار آخر.
وكما انطبق هذا على هتلر وموسيليني وفرانكو وستالين، انطبق على عبدالناصر والقذافي وصدام والأسد وصالح.. ألخ، وهو ينطبق على الخميني وخامنئي.. مع أنهم حكموا عبر “مجلس” أو “قيادة” حزبية أو “ولاية” فقهية أو “فلسفة” عنصرية أو تمذهب “ديني” أو “قومي”، وبالمجمل وفق رؤية خاصة حصرية!
وعندما تنهار النظم الشمولية يشتغل أنصارها على نظرية المؤامرة، فهم لا يتخيلون كيف ينتهي هتلر بعد أن احتل نصف أوروبا وروسيا، وكاد أن يجتاح بريطانيا، والشيوعي لا يكاد يصدق أن الاتحاد السوفياتي انهار، وأن النظرية انقرضت، ومثله البعثي والقومي الحالم يظل قادرا على توهم أن صدام حسين حي يرزق وأن ناصر سيبعث من جديد!.
في حالة إيران لن يتقبل هؤلاء أن نظرية ولاية الفقية أصبحت صفرا وأنها ستتلاشى قريبا، وأن إيران الحلم الامبراطوري المغلف بالإسلام انتهت، لأنهم عاشوا على يقين بأن إيران هي دولة الإمام المخلص، المعيد للعدل بعد الضلال، وأنها ستمتلك السلاح النووي المرعب، وأنها تتدخل حيثما تشاء وتقرر ما تشاء، وتتحدى العالم فيصبح العراق لها، وتقرر الزوال لنظام طالبان فتنجز لها أميركا ذلك لأجل أن ترضى!.. ثم تمد يدها إلى سورية فتمنع سقوط نظامها، وتنظم انقلابا في اليمن فيصبح مضيقا هرمز وباب المندب تحت أمرتها تفتحهما وتغلقهما كما تشاء!..
هؤلاء لا يتقبلون الصدمة.
لا يستوعبون أن إيرانهم تسلم مشروعها النووي متوسلة رفع الحصار عنها، وأن حزبها المخصص لتلميع صورتها في العالم الإسلامي عند بوابة القضية الفلسطينية لم يعد يقاتل إسرائيل بل منخرط في قتال طائفي بائس، وأنها خسرت اليمن كليا، وعلى وشك خسارة سورية، وأنها قوتها تستنزف في العراق، وأن نظامها الداخلي يعاني من اضطراب واحتجاج الأقليات!.
ولماذا يصدقون!؟
أن العقل الشمولي الكليّاني يغيّب الشعور الجمعي والشخصي المتوحد عن رؤية الحقيقة، فتستمر المكابرة، وقد رأينا هذا في العقل الجمعي المصري عندما لجأ النظام الشمولي بعد هزيمة يونيو 1967 إلى الدمج بين السياسة والعاطفة مستدرا أو مستمنيا روح التحدي، مع أن مشروع الناصرية تمزق بتلك الهزيمة شر ممزق.. فخطب عبدالناصر وبكى ثم استقال، فإذا بالشعب يخرج للشوارع رافضا رحيله، بينما المطبلون يجعلون تمريغ أنوف الأمة مجرد (نكسة) ويهللون بأن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة، وأنه لا صلح ولا اعتراف ولا مفاوضات، فإذا بنا أمام اعتراف ومفاوضات بل وعلاقات، وما أخذ بالقوة تم استرداده بالتوسلات والتنازلات!..
هذه الحالة تواجهها إيران اليوم.. فأميركا لم تعد الشيطان الأكبر كما علمنا الخميني!.. بل هي دولة صديقة نصافحها ونتعاون معها ونستقبل شركاتها النفطية والدوائية، وهذا مشروعنا النووي خاضع للتفتيش والتدمير والتعهدات والمراقبة الحثيثة، ثم إنه لا شأن لنا بالصراع العربي الإسرائيلي، وكل ما نرجوه مراعاة مصالحنا!، وأمن وبقاء النظام!.
إنها صدمة ثقيلة.. يصعب على العقل الإيراني ومناصريه استيعابها، قبل مرور سنوات، وإذا حاولت إقتناع هؤلاء بأن هناك قوة إقليمية كبرى كـ (إيرانهم) لا يصدقون ولا يتفهمون، ويواصلون التشبث بالحلم: إيران هي التي ستنتصر، فهم لا يصدقون أن السعودية لجمت إيران بالبحرين، وطردتها من اليمن وقادرة أن تكرر الأمر في سورية والعراق وأن المعادلة الدولية تعينها على هذا، وهم لا يستوعبون أن السعودية دعمت الإرادة الدولية في شأن الملف النووي، أولا بخفضها أسعار النفط وثانيا بتهديدها بامتلاك قنبلة إذا امتلكتها إيران.
هؤلاء لا يرون هذه الحقائق الساطعة.. ولذلك سيواصلون التوهم ذلك أن الوهم هو صلب وأساس كل بنيان عقل شمولي.. خائب.