كتاب سبر

الثابت والمتغيّر.. بقلم جاسم السعدون

المواطنة، مفهوم ثابت ومقدس، ومن أجل تعزيز ثباته، تسير بعض الدول أساطيلها لنجدة مواطن، ذلك لا يعني أن المواطن لا يعاقب إن أخل بواجباته، ولكن، مقابل التزامه واجباته، تمنحه الدولة كامل حقوقه، شاملاً الدخول في نزاع مسلح من أجله إن تعرض لغبن ومخاطر. والمواطنة، قيمة متوازنة، كلما ارتفع جانب الحقوق فيها، قابله ارتفاع جانب الواجبات، أما إذا فاقت الحقوق الواجبات، فإنها تتحول إلى جائزة، وعكس ذلك، تتحول إلى عبء، إذا فاقت الواجبات الحقوق. وكلما إتسع الخلل بين الحقوق والواجبات، تحولت المواطنة من الثابت إلى المتغير الخطر، فالسعي في الحصول عليها، يتحول إلى طمع في منافعها إن مالت بشكل كبير لصالح الحقوق، وتتحول إلى هوية مؤقتة إن حدث العكس. ومعنى متغيرة، أنها في الحالة الأولى، أي تفوق الحقوق على الواجبات، لا يحكم الإنتماء إليها ولاء دائم، وإنما مفاضلة بين جائزة وأخرى، إما إن تفوقت الواجبات، فالإنتماء مؤقت لمن ليس له خيار آخر سواها. 
في جانب الحقوق، ليس المطروح هو راتب وخدمات مجانية أو رخيصة فقط، فتلك الماديات ليست مستدامة، ولا تأصل لمواطنة أصيلة، يؤصلها حقوق الشراكة في الوطن، بمعنى الحق في المساهمة غير المنقوصة في سلطة إتخاذ القرار، وليس مجرد التفضل بمنح أو بمنع بعض الحق فيها. وفي جانب الواجبات، على المواطن أن يقبل المساهمة غير المشروطة، بعقله ودخله وروحه، في بناء الوطن والدفاع عن مصالحه، شاملاً القتال والموت دفاعاً عن مواطن آخر إن دعته دولته إلى القتال، من دون النظر إلى عرق أو جنس أو مذهب ذلك المواطن. 
أهمية طرح هذا الموضوع الآن، هو للتذكير فقط، بأن المؤشرات المؤلمة تؤكد ذوبان مفهوم المواطنة الثابتة في بلدنا الطيب، وتفشي المتغيرة، بعد مرسوم الصوت الواحد، بينما كان المستهدف والمعلن عند صدوره، هو ضمان وحدة البلد الوطنية. المؤشر الأول، هو مجاهرة مسئول الجنسية والجوازات في وزارة الداخلية، بأن الجنسية الكويتية مجرد جائزة مادية، بيت ووظيفة، وسوف تتمتع بها حتى لو خالفت قانونها، ما دمت “بالعاً للعافية”. وأتبعها وزير الدولة لشئون مجلس الوزراء، بالإحتجاج، على من يصنع قهوته من ماء الحكومة، وينتقدها، فالحقوق من وجهة نظريهما هي مجرد “علف”، أي مسكن ووظيفة ومشرب ومأكل. والواقع، أنك لست مطالباً كمواطن بأي واجبات أو حتى قانون وقيم مادمت موالياً للحكومة، فالحكومة من وجهة نظريهما هي كل الدولة، ولا بأس بأن تكون فاسد ومتهم بالإرتشاء، وقد يفرش لك السجاد الأحمر، وقد تصبح مدافعاً عن الأمانة والأموال العامة، وما عليك فقط، سوى إعلان ذلك الولاء للحكومة، حتى لو كنت كاذب. والمؤشر الآخر، هو إجماع النواب الشيعة في مجلس الأمة على مقاطعة إحدى جلساته بسبب صدور حكم محكمة أولى وجدوه جائراً، وبسبب إدعائهم بالتعامل القاسي مع المتهمين أثناء التحقيق. وسبقها في جلسات لمجلس الأمة قبل ذلك، تراشق ذو بعد طائفي بغيض، استخدمت في العُقل وغاب فيه العَقِل، وسبق لي التحذير منه. ولست ضد إنتقاد حكم محكمة مع ضرورة إحترام القضاء، ولا أن يقاطع أحد جلسة مجلس الأمة، ولكن، في إحتجاج ضمن المفهوم الواسع للمواطنة، أو دفاعاً عن حقوق الإنسان أياً كان، وليس ضمن بعده الطائفي البغيض. 
خطورة المؤشران، -وغيرهما كثير-، أنهما يجسدان سيادة مفهوم المتغير في المواطنة، في بلد كان جميلاً وسباقاً في الإنحياز إلى مفهوم المواطنة الثابتة الشاملة، وقبل أكثر من نصف قرن، وكان حينها الشاذ، هو النزوع إلى المفهوم المتغير. ذلك المفهوم الثابت الجميل والقديم، هو ما ساهم في تسويق البعد الأخلاقي في عملية تحرير الكويت في عام 1991، وذلك المفهوم، هو ما دفع أهل الكويت بكل تصنيفاتهم إلى رفض مبدأ الإستفتاء على حكم الأسرة الذي إقترحه الرئيس الفرنسي “ميتران”، وهو ما أقنع العالم بوحدة الكويتيين الوطنية إبان مؤتمر جدة. تلك الإنجازات، كلها تلاشت، أو في طريقها إلى التلاشي، ليس نتيجة مؤامرة خارجية، ولا حتى داخلية من فئة ضمن النسيج الإجتماعي أو السياسي الداخلي، وإنما مؤامرة حكومية ناتجة عن عجز عميق في الفهم والإدراك. الشيعة والسنة، والبدو والحضر، أبناء وطن واحدة صغير وجميل، وفي هذه الظروف الإقليمية المريرة، يحتاجون أكثر من أي وقت مضى إلى تلاحمهم. ما فرقهم، هو إختزال الدولة في حكومة ركيكة، توزع العطايا بما يضمن الولاء لها، حتى على حساب الوطن، وتدفع إلى الواجهة، من يتكسب على تفتيته. ومفهوم المواطنة الثابتة والشاملة، يتحقق فقط، عندما نؤمن بأن الوطن هو الدائم والثابت بعدنا، أما الحكومات، فهي مؤقتة، تأتي وتذهب، أما تلك الحكومات التي تروج للمواطنة المتغيرة، فهي ليست سوى مرض خطير لابد من استئصاله.

بقلم.. جاسم خالد السعدون
21 يناير 2016