أقلامهم

د.علي السند: الأغاني الوطنية لا تصنع مواطناً..!

بمجرد الحديث عن المواطَنة يتبادر إلى أذهان البعض أنه حديث عن مشاعر الحب والولاء الفطري للأرض، والمكان الذي وُلد فيه، والتراب الذي نشأ عليه الإنسان، حيث يعتبر البعض أن المواطنة عبارة عن مشاعر مغروسة في الإنسان بمجرد أن يولد في بلد ما، يعيش على أرضه، من دون أي اعتبار لأمور أخرى، هذا التصور يشير إلى وجود نوع من الالتباس في مفهوم المواطنة لدى البعض، وهذه احدى معضلات واقعنا السياسي.
يُعتبر مفهوم المواطنة بصورته المعاصرة مفهوما حديثا في الفضاء العربي، كما أنه ظهر مع الدولة الحديثة بعد أن صار لها كيان وشخصية اعتبارية تتمثل في النظام السياسي المعترف به دوليا، والقائم على ضمان الحقوق وأداء الواجبات التي تنظمها الدساتير، والتي تجعل المواطن هو حجر الزاوية في مسألة السيادة، حيث تنص ـــ بصور مختلفة ـــ على أن الأمة مصدر السلطات.
المواطَنة ليست مجرد مشاعر نتيجة ضمان الأكل والشرب على أرض ما، وإنما هي مفهوم يتولّد عن منظومة سياسية قائمة على ضمانات العدالة في توزيع الثروة، والحرية والأمن بكل صوره، والمشاركة السياسية الحقيقية، بحيث يشعر المواطن بأن فرصه متكافئة مع جميع المواطنين، وأن القانون الذي يجب عليه الالتزام به هو تعبير صادق عن إرادته واختياره، وهو محل احترام وتطبيق من الكبير قبل الصغير، وبذلك يتحمل المسؤولية، ويقوم بواجباته، على اعتبار أن كلمة «مواطَنة» على وزن «مفاعَلة» وهي صيغة تقتضى المشاركة بين طرفين أو أكثر، أما الحديث عن حب الوطن مطلقا وأبدا، والتغني به ورفع الأعلام وتنظيم «الأوبريتات» والأغاني الوطنية.. وبقية الرومانسيات، فهي أشياء لا علاقة لها بجوهر مفهوم المواطنة في الفكر السياسي المعاصر.
قيمة الوطن في نفوس أبنائه ليست في التغزّل بترابه، فقد يكون هناك تراب أجود من تراب الوطن، وإنما قيمة تراب الوطن تنبع مما يشيده أبناؤه عليه من بنيان ونظام، كما أن قيمته تنبع من قدرة أبنائه على أن يروا إرادتهم الصادقة قد تحققت على هذا التراب، فهم تعبير عنه، وهو تعبير عنهم، وهذا ما يفسر ظاهرة تولي المناصب العليا في الدول الديموقراطية من قبل أشخاص لا تعتبر تلك الدول هي موطنهم الأصلي، فيكون المواطن الأول فيها مولودا في غيرها، وليست هي أرض آبائه وأجداده، ورغم ذلك لا تجد من يشكك في وطنيته!
من الطبيعي أن يتراجع الشعور بالانتماء ويحل مكانه الشعور بالتوجس والخوف والتمركز حول المصالح الخاصة والضيقة، عندما تكون صفة «المواطَنة» مهددة بالسحب لمجرد الاختلاف مع بعض المسوؤلين القائمين على الدولة، أو انخفاض منسوب الولاء لأفراده!