أقلامهم

أحب الفاسدين ولست منهم

لسنوات ونحن نراوح في معركتنا مع الفساد والفاسدين، ولأننا لم نضبط مفهوم الفساد أصلاً؛ فقد ماعت المسائل وتشابكت الخيوط بطريقة يصعب تفكيكها، فلو اختصرنا الفساد بنهب وقبض الأموال العامة فقط، فسنكون بدورنا فاسدين من البداية في الاستدلال والتسبيب، وهذا قد يكون أحد أهم أسباب عدم تحقيقنا أي تقدم ملحوظ في معركتنا الخالدة تلك، فقد أصبح من الطبيعي هذه الأيام أن ترى فاسداً غارقاً بالفساد حتى قمة رأسه يصرخ مطالباً بمحاربة الفساد الآخر، بل حتى من عينتهم الدولة لمكافحة الفساد لم يسلموا من شره أو حلاوته بالأصح، فصرنا مثل السيارة “المغرزة” التي تعمل بأقصى قوة وتصدر أعلى الأصوات، لكنها لا تتحرك ولا تطلق إلا الغبار الذي يشوش الرؤية والفهم.

إلا أن ذلك يجب ألا يمنعني من تسجيل إعجابي بالإخوة الفاسدين وتفكيرهم العملي وتفوقهم المهني وإصرارهم القوي على تحقيق النجاحات المتوالية، فالفاسدون ناس جادون ومنغمسون في أعمالهم، ويكرسون جل وقتهم لتطويرها على الدوام، بما يتناسب مع تزايد القوانين واللوائح وتسارع التقدم التكنولوجي، لذا ولطبيعة عملهم “الشاقة” تلك تجدهم أناساً متواضعين يحبون حياة الظل ولا تغريهم الأضواء، كما أنهم متماسكون يرفع بعضهم بعضاً، فلا يحاول أحدهم أن يفسد على فساد أخيه، ولا أن ينافسه أو يفضحه، فالتخصصات موزعة بينهم بالعدل، والوزارات والمناقصات والصفقات بالتساوي، ومن طبائعهم العمل بصمت وهدوء، ولا يزعجوننا بحديثهم المبتذل عن الشرف والأمانة، فهم يعرفون ونحن نعرف أنهم لا يملكون هذه الصفات، لذا فيكفيهم شرفاً عدم محاولتهم إقناعنا بوجودها لديهم، بعكس الصالحين أو مدعي الصلاح؛ فهم كثيرو الكلام والصراخ قليلو العمل، وربما كان لكثرة ترديدهم لشعارات محاربة الفساد سبب في ترويجه، فهم أعطوا انطباعاً بانتشاره المفرط وصعوبة هزيمته، مما شجع الكثيرين للانضمام إلى ركابه، مادام هو موجوداً موجوداً، بهم ومن دونهم، ومن طبيعة الناس أن تشجع الفرق الفائزة. كذلك فبعض من يدعون محاربة الفساد يجعلونك تتعاطف تلقائياً مع الفساد والفاسدين وتتمنى الانضمام لفريقهم، بسبب طريقة “الإصلاحيين” الفاسدة، وعينهم العوراء، فكل واحد منهم يريد إصلاح فساد غيره، ولكنه لا يرى فساد نفسه، ولا يريد إصلاح فساد أقاربه وأحبابه وفرقته الناجية، وأمثال هؤلاء المستشرفين هم من أفسدوا الفساد وأخرجوه عن إطاره وشكله التاريخي المعروف، لذلك فهم يتعبوننا على مرحلتين، فعلينا أولاً اكتشاف فسادهم المتنكر بأقنعة الصلاح وحلو الكلام والشعارات، ثم التعامل معه سلماً أو حرباً، حسب نوعه، هذا إذا لم تأخذنا العزة بالإثم فننكر ونخدع أنفسنا بعدم معقولية فساد من صدقناه وأضعنا عمرنا خلفه، فكشفه هو في الحقيقة كشف وطعن لذاتنا واختياراتنا، فيكون الخيار الأنسب حينها هو الاستمرار بالمزايدة والغرق، ثم نتساءل بعد ذلك: لماذا ينتصر الفساد والفاسدون؟!

الفاسدون لا يتكلمون كثيراً، ويكسبون على الدوام، و”الإصلاحيون” يزايدون ويخسرون ويخسروننا معهم، لذا فباعتقادي المتواضع جداً أنه لا يمكننا الانتصار في معركتنا على الفساد إن كنا جادين إلا بوجود رجال صالحين يتمتعون بصفات وأخلاق الفاسدين المهنية.