سبر القوافي

البحر المجتث بين الفصيح والنبطي

يذكر العروضيون أن وزن المجتث في دائرته: مستفع لن فاعلاتن فاعلاتن (مرتين)، لكنه لم يأتِ إلا مجزوءا: مستفع لن فاعلاتن (مرتين). ثم يستشهدون له ببيت يعزونه لرجل من مكة! والبيت:
البطن منها خميصٌ ** والوجه مثل الهلالِ
وفي انقطاعهم على التمثيل بهذا البيت دليل على ندرته عند القدماء، وقد صرّح بذلك أبو العلاء المعري في [الفصول والغايات] فقال: “والثلاثة الأوزان المضارع والمقتضب والمجتث قلّما توجد في أشعار المتقدمين”. ولكن المجتث شاع منذ العصر العباسي وأقبل عليه الشعراء لعذوبته ورشاقة إيقاعه، وقد عدّه ابن عبد ربه أحلى البحور، وقال فيه إسحاق الموصلي وهو يتغنّى بحضرة الرشيد:
اسمع للحن طريبٍ ** من صنعة الأنباري
صوتٍ مليحٍ خفيفٍ ** يطير في الأوتارِ
ويروى أن الوليد بن عبدالملك من أوائل الذين نظموا عليه، عندما قال راثيا عمّه هشام:
إنّي سمعتُ بليلٍ ** وَرَا المصلَّى برنَّهْ
إذا بنات هشامٍ ** يندبنَ وَالِدَهُنَّهْ
ولسهولة الشعر عليه كان يواتيه متى أراد. ومما يروى في ذلك أيضا أن المهتدي بالله الخليفة قال مرة: “عاون على الخير تسلم ولا تجزه فتندم”. فقيل له: هذا بيت شعر! فقال: والله ما تعمدته!
هذا الوزن جاء في الشعر الشعبي على قلّة، ومازال مفضّلا للغناء والإنشاد، ومنه قول أحمد الناصر الشايع:
عذبتني يا حبيبي ** وراك عني تغيبي
وقول حجاب بن نحيت:
يا ويل من يجرحنّه ** بيض العذارى المفاريع
وقول علي بن حمري:
يا حسرتي يا وجودي ** يا كسر قلبي وعودي
ولا يصطدم الشعر النبطي مع الوتد المفروق في تفعيلة المجتث الأولى (مستفع لن)، لأن فاؤها أوسط وتد مفروق، وهذا لا يجوز سقوطه في الفصيح، وهو في النبطي لا يسقط ولا يقبل النبطي سقوطه حتى لا تتوالى ثلاث متحركات، وإنما يكثر في النبطي الخبن وهو حذف سين (مستفع لن) وهذا جائز فيها.
هذا فيما يخص الوزن المشهور للمجتث وهو المجزوء الرباعي، أما وزنه التام السداسي فقد ذكر بعض العروضيين أنه شذّ استعماله، ومثّل له ببيت بلا نسبة:
يا من على الحب يلحى مستهاما ** لا تلحني إن مثلي لن يلاما
والعجيب أن هذا التام جاء في الشعر الشعبي كما تصوّره الخليل في دائرته! وأشهر ما يُمثّـل به القصيدة التي يغنيها محمد عبده:
السيل يا سدرة الغرمول يسقيك ** من مزنةٍ هلّت الما عقربيّة
ولهذا الوزن حضور في فن المحاورة، ومنه قول فيصل الرياحي:
أخاف بعض النجوم تطيح من فوق ** تنزل على البر والبحر العميقي
وقد حارَ نقادُ الشعر الشعبي في تخريج القصائد التي جاءت عليه، فعدَّها بعضهم من مجزوء البسيط المرفّل، والترفيل زيادة حرفين، فيكون: (مستفعلن فاعلن مستفعلن فا)، وفي هذا التخريج تمحّل، لأن هذه الأبيات تقبل المجتث التام بلا زيادة، عدا تسبيغ العروض في بعض القصائد، والتسبيغ والتذييل شائعان في أوزان النبطي، وكأن هذا الساكن الزائد بديل لإشباع الحركات في الشعر الفصيح، وإذا قبِلتْ القصيدةُ وزنا بعينه فلا يصح أن نعتسف لها وزنا آخر فنزيد عليه أو ننقص حتى يوافقها، فلا يجوز مثلا أن نخرّج قصيدة من الرجز فنقول إنها على البحر الكامل المضمر، أو قصيدة على الهزج فنقول إنها على مجزوء الوافر المعصوب.. وهذا باب في علم العروض يسمى (المعاياة)، ومن قواعده أن القصيدة تُنسب للوزن الذي يقبلها بلا زيادة أو نقص، فإن لم يوجد فتُنسب إلى الأقل تغييرا، قال صاحب [شرح عروض ابن الحاجب]: “فإن كان حَمْل الوزن على وجه السلامة وعلى وجه بالتغيير، فالأولى حمله على السلامة لأصالتها”.
وهنا تظهر فائدة لا بد من ذكرها، وهي أن الذي جعل نقاد الشعر النبطي لا يهتدون إلى تخريج هذا المجتث التام هو عدم قراءتهم لدوائر الخليل بن أحمد، واقتصارهم على المستعمل من الأوزان دون النظر إلى أصولها، وبهذا تتضح فائدة هذه الدوائر، ورحم الله النظّام [شيخ الجاحظ] عندما قال عن الخليل: “تعاطى مالا يحسنه، ورام مالا يناله، وفتنته دوائره التي لا يحتاج إليها غيره”. فها نحن نعود إلى دوائر الخليل ونفيد منها، ونجد أغلب ما تَصوّرَه فيها حاضرا في الشعر الشعبي وإن غاب عن الشعر الفصيح.

تعليق واحد

أضغط هنا لإضافة تعليق