أقلامهم

البراك “رجل دولة”

كثيرون وصفوا ‏الخطاب الذي ألقاه مسلم البراك في حفل العشاء بمناسبة خروجه من السجن، بأنه “خطاب رجل دولة”. كيف يمكن لشخصية كالبراك، معروف باستخدامه باستمرار لنبرة تصعيديّة وحادّة ومثيرة للجدل في مخاطبة الحكومة، أن يوصف خطابه الأخير بأنه خطاب رجل دولة؟ ما معنى رجل دولة؟

في حالة خطاب البراك، فهو الرمز السياسي البارز الذي استطاع أن يطرح رؤية وطنية تعكس بصورة واقعية الأزمة السياسية/الاجتماعية التي تعيشها الكويت. فهو أشار إلى واقع الحال السياسي/الاجتماعي بصورة شفافة، فكان متّسقا في الربط بين عناصر التشخيص وبين رؤى العلاج، فاعتبر الكثيرون إشارته تلك آلية للخروج من عنق الزجاجة التي نحن فيها.

وفيما يتعلق بمسمى “رجل دولة” فهو نتيجة للتالي: أن أرضية الفرد تكون مليئة بالأحداث السياسية والتطورات بحيث لا مكان فيها للركون والهدوء، فيزداد الصراع السياسي بين الأطراف السياسية وبين الحاكم، ويكثر الصراع الفكري واختلاف وجهات النظر، فتحدث هذه الأرضية هزات في ذهن الفرد الذي يسلك طريق بناء شخصيته القيادية التي تجعل منه “رجل دولة”، فتكون هذه التفاعلات دافعا له للتفكير في الواقع وللبحث والتدقيق في الأفكار والمفاهيم السائدة في المجتمع، فلا يجتر الأفكار اجترارا، فتبعث هذه الأرضية في طريق تحوله إلى رجل دولة روح التضحية وروح المنافسة من أجل الوصول إلى الغايات وتحقيق الأهداف، فلا يأبه للتعرّض للاعتقال أو الأذى في سبيل تحقيق قناعاته (1).

وحين الحديث عن أن “مسلم البراك رجل دولة”، أو عن مسلم البراك كما ظهر في خطابه ليل الاثنين، لابد من الإشارة إلى بعض النقاط، كتجاوز بعض “القَبْليات” السياسية والاجتماعية والنفسية والفكرية التي كانت سائدة في أذهان الكثيرين حول البراك، فهناك قَبْليات قديمة عفى عليها الزمن، أفكارا كانت أو ظروفا أو أحداثا أو مواقف، لا يزال البعض يجترّها عن عمد في أي حُكم جديد على البراك، لأنه لا يريد أن يرى واقعا جديدا ولا يحب أن يسمع خطابا تُشكِّله التطوّرات، بل البعض يتمادى بصورة غير منصفة في اجترار السلبيات بحيث لا يرى أي إيجابية في تاريخ البراك ومن ثَمّ لا يمكنه أن يشخّص وجود تطوّر في خطابه الأخير ولا يستطيع أن يستكشف تغيّرات في شخصيته السياسية.

من هنا أقول: لا يمكن للبراك أن يظل تصعيديا دوما، على الرغم من أن التصعيد حاجة سياسية مجتمعية تفرضها الظروف على الأرض. فما يسمى بـ”هدوء” البراك في خطابه الأخير هو ليس هدوءا بقدر ما أنه انعكاس لرسالة تغييرية ولرؤية إصلاحية كان لابد أن تُطرح بهذه الشاكلة السياسية، ومن ثَمّ على الحكومة أن تقرأ هذه الرسالة برويّة لكي تستطيع أن تطرح رؤيتها بشأن كل ما جاء فيها، أو بعبارة أخرى، لكي تخطو خطوة علاجية تقابلها خطوة مساندة من المعارضة. فإذا لم تستغل الحكومة تطورات خروج البراك من السجن ثم التطورات المتعلقة بخطابه الأخير وتبادر بالمعالجة، فمن شأن أمور البلد أن تعود إلى الوراء.

وبما أن البراك قد اعترف في خطابه بوجود ثلاثة أخطاء في العمل السياسي، وهي: إعلاء العمل البرلماني على حساب العمل السياسي، عدم المساهمة في تغيير بعض القوانين، وجود أخطاء في بعض النشاط السياسي للمعارضة، وأن تلك الأخطاء لا يمكن مقارنتها بالأخطاء “التدميرية” للحكومة، لكن يجب الإشارة هنا بأن إعلاء العمل البرلماني هو تأكيد على ضرورة تطوير العمل السياسي، أي الدفع نحو تقنين النشاط السياسي الجمعي عن طريق ربط الديموقراطية بالأحزاب أو بالجمعيات السياسية بحيث لا يظل السلوك السياسي الجمعى حِكراً على الحكومة فيما يُحظر لمعارضي الحكومة انتخاب مثل هذا السلوك. فالحياة الديمقراطية لا يمكن أن تتطور ولا تستطيع أن تحقق استقرارا سياسيا واجتماعيا دون تشريع العمل السياسي الجمعي المرتبط بالتنافس الحزبي وبتداول السلطة وبانتخاب رئيس الحكومة. فهل تقرأ الحكومة الرسالة بصورة حقيقية وواقعية؟ فالأخطاء التي أشار إليها البراك تتماهى مع ضرورة بروز العمل السياسي الحركي المنظّم في المرحلة القادمة، خاصة إشارته إلى أهمية العمل السياسي خارج البرلمان. كما أن إشارته إلى عدم المساهمة في تعديل بعض القوانين، هي اعتراف مهم واستراتيجي بخطأ أولويات النشاط البرلماني السابق، وهذه ملاحظة مهمة تعكس جلدا للذات يحتاجها البراك بل يحتاجها الواقع السياسي الكويتي بفريقيه الحكومي والمعارض.