محليات

تقرير
ما العواقب الكارثية المحتملة لجمع “البصمة الوراثية” في الكويت؟

غالبًا ما تتبع القوانين المجحفة هجمات إرهابية كبرى. بعد أحداث 11/9، على سبيل المثال، أصدر الكونغرس الأمريكي قانون “باتريوت” الذي ضيق على حريات الأفراد، وبعد هجمات تشارلي إيبدو في باريس العام الماضي، فكّرت القوى الأوروبية في فرض قوانين مراقبة صارمة وشاملة على الإنترنت. وفي أعقاب هجوم يوليو الماضي في مدينة نيس، أصدر المسؤولون الفرنسيون، لدرجة تثير السخرية، قوانين سخيفة ضد النساء المسلمات اللاتي يرتدين “البوركيني” (لباس البحر الإسلامي) في الشواطئ العامة.

وبعد أن فجّر رجل تابع لتنظيم داعش قنبلة في مسجد شيعي في الكويت العام الماضي، مما أسفر عن مقتل 27 شخصًا، تمّ تمرير أم كل القوانين المثيرة للقلق والمشاكل من خلال البرلمان الكويتي، ولعل أكثرها إثارة للقلق هو قانون جمع الحمض النووي (أو ما يعرف محلياً بالبصمة الوراثية) الذي يلزم جميع المواطنين والمقيمين والزوّار تقديم عيّنات من الحمض النووي (DNA) للدخول أو البقاء في البلاد. تمّ تمرير هذا القانون باسم “الأمن الوطني”، والمساعدة في تحديد ضحايا الهجمات الواسعة النطاق.

البصمة 1

في الآونة الأخيرة بدأنا نفهم الطبيعة التدخليّة لقانون الحمض النووي الجديد ومدى قوته، والذي من المتوقع أن يدخل حيز التنفيذ في وقت متأخر من هذا العام. في دولة ثرية يحصل فيها المواطن على الجنسية بناءً على سلالته ولا تمنح الجنسية فيه لآخرين إلا في أضيق الحدود، كُلِّف المسؤولون بمهمة من شأنها أن تعطي منح الجنسية أسساً علمية لم يسبق لها مثيل، وربما تترك الآلاف بلا جنسية.

المواطنة والمجتمع والجنسية

تقول جوليا هارينغتون ريدي، رئيسة قسم المساواة والاندماج في مبادرة العدالة التابعة لمنظمة المجتمع المفتوح:

“هذا أمر يبعث على القلق الشديد، لأنَّ المواطنة يجب أن تقوم على علاقات الناس في المجتمع والدولة. البصمة الوراثية ليست سببًا وجيهًا للحصول على الجنسية، وإنّه بالتأكيد لتشويه رهيب لفكرة المواطنة نفسها القول بأن البصمة الوراثية يمكن أن تكون العامل الوحيد للمواطنة“.

وفي الأيام الأخيرة، أشار بعض المسؤولين الكويتيين إلى أن قاعدة بيانات الحمض النووي ستُستخدم لفعل ذلك.

وذكرت مقالة في صحيفة القبس المحلية نقلًا عن النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء، وزير الداخلية الشيخ محمد الخالد قوله إنَّ الحكومة ستستخدم قاعدة بيانات الحمض النووي “للمساعدة في التحقق من الجنسية الكويتية“، في حين قال مسؤول آخر إنَّ البيانات تساعد في “القبض على المزورين والمنتسبين إلى غير آبائهم“، وصرّح مسؤولون كبار في وزارة الداخلية لصحيفة الشاهد الأسبوع الماضي أنهم يتوقعون “أنَّ 200 ألف كويتي لن يتقدموا لإجراء البصمة الوراثية كشرط لصرف الجوازات الإلكترونية الجديدة خلال الفترة المقبلة، أما السبب في هذا فهو عمليات تزوير في ملفات جنسياتهم يخشون انكشافها ثم محاسبتهم عليها“. ثمّ قال مسؤولون إنَّ هذا يمكن أن يؤدي إلى إلغاء جنسياتهم، إضافة إلى اتهامات جنائية يجري رفعها.

الجنسية والتركيبة السكانية

البصمة ٢

تقتصر الجنسية الكويتية على الأسر التي تقيم في البلاد منذ عام 1920، ويتم تناقلها عبر أسلاف الآباء، مع استثناءات قليلة. ومن بين إجمالي عدد سكان يصل إلى 3.3 ملايين نسمة، فإن ما يزيد قليلًا على الثُلث هم مواطنون كويتيون. ولأنها دولة غنية بالنفط، تأتي الجنسية الكويتية مع قائمة طويلة من الفوائد والمزايا، بما في ذلك التعليم المجاني حتى الجامعة، والرعاية الصحية المجانية، والإعانات الغذائية (التموين)، وإعانات البطالة، وبدلات نقدية شهرية تقدمها الحكومة لوالد كل طفل.

يعيش في الكويت أيضًا البدون وهم أقلية تتحدر من القبائل العربية البدوية التي لسبب أو لآخر، لم تتقدم بطلب، أو لم تكن مؤهلة للحصول على الجنسية الكويتية بعد الاستقلال عن بريطانيا في عام 1961. وتعتبر الحكومة الكويتية البدون مقيمين بصورة غير قانونية. وهناك الكثير من عديمي الجنسية، ولكن على مر السنين حصل بعضهم على الجنسية من خلال شبكة معقدة من حالات الزواج الصوري وادّعاء بعض الكويتيين أنَّ أطفال البدون هم أطفالهم مقابل مبلغ من المال.

وتمادت الحكومة الكويتية إلى درجة التفكير في نقل البدون عديمي الجنسية إلى جزر القمر، وهي جزيرة إفريقية نائية، كوسيلة للتخلص من مشكلة مزمنة. وفي الآونة الأخيرة توصلت الحكومة الكويتية إلى اتفاق مع جزر القمر لمنح البدون عديمي الجنسية جنسية الجزيرة، وبدأت إصدار جوازات سفر جزر القمر. وتخشى جماعات حقوق الانسان من أنَّ هذا قد يكون مقدمة لعمليات ترحيل جماعي، نظرًا لأنَّ الدول لا يمكنها ترحيل شخص عديم الجنسية رسميًا بموجب القانون الدولي.

الحق في الخصوصية

الآن، مع قاعدة بيانات الحمض النووي، ستكون الحكومة الكويتية قادرة على رسم خريطة لجينات السكان عبر الأجيال، وتحديد الذين حصلوا على الجنسية من خلال واحدة من هذه المؤامرات. وسيسمح القانون للحكومة بتقييد الحصول على الجنسية على أساس أسلاف يمكن التحقق منهم، ومعاقبة أولئك الذين ينتهكون النظام للحصول على الجنسية، وسيتم تجريدهم من المزايا التي تأتي مع الجنسية.

وقالت وفاء بن حسين، الخبيرة القانونية التونسية والزميلة السابقة بمؤسسة “Electronic Frontier Foundation”: “أعتقد أننا نحتفظ بكلمة “الوحشية” لحالات مثل هذه الحالة. لقد ذهبوا من انتهاك الحق في الخصوصية إلى انتهاك حق الإنسان في التعليم والرعاية الصحية“.

وبموجب اتفاقية حقوق الطفل التي صدّقت عليها كل الدول باستثناء الولايات المتحدة، يجب منح الأطفال جنسية البلد الذي وُلِدوا فيه. وعلى مدى أجيال، تجاهلت الكويت هذه المعايير الدولية عندما كان الأمر يتعلق بالبدون.

وقالت بلقيس ويلي، وهي باحثة متخصصة في شؤون الشرق الأوسط بمنظمة هيومن رايتس ووتش: “في ظلّ تمرير القانون، الناس الذين يعرفون تعقيدات قضية البدون كانوا يقولون: هذا القانون ليس له أي علاقة بالإرهاب والنشاط الإجرامي، ولكن له علاقة بالدولة أثناء انخفاض أسعار النفط، لتتحدث فجأة عن فرض ضرائب على مواطنيها ووقف جميع أنواع المزايا. وهذا قد يكون في الواقع محاولة لقطع المزايا عن هذا المجتمع“.

وطالبت لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الشهر الماضي بتعديل القانون، وأن يتم جمع عيّنات الحمض النووي فقط بعد أوامر خاصة من المحكمة، لإجراء تحقيقات محددة. وقالت اللجنة إنَّ القانون “يفرض قيودًا غير ضرورية وغير متناسبة مع الحق في الخصوصية“.

ما الهدف الحقيقي من القانون؟

البصمة ٣

وقالت عضو اللجنة سارة كليفلاند في مؤتمر صحفي، وفق وكالة رويترز: “جزء من السبب في قلق اللجنة حول هذا الموضوع هو احتمال محاكاة أي دولة أخرى لهذا القانون. إنها المرة الأولى التي نشهد فيها مثل هذا القانون“.

القانون نفسه توجد به بنود تحدد العقوبات الجنائية للأشخاص الذين ينشرون البيانات، ولكنه لا يعطي أي تفاصيل محددة حول كيفية حصول الهيئات الحكومية على تلك البيانات، أو كيفية عمل الرقابة القضائية.

وقالت ويلي إنَّ “المشكلة هي أنَّ القانون صدر بشكل سريع جدًّا“.

واقترح بعض الخبراء أن احتمال رسم شجرة العائلة قد يكون أكثر من مجرد تكتيك للتخويف من أنه خطة كبرى.

وقالت الدكتورة ديبرا ماثيوز، وهي مديرة مساعدة برامج العلوم في معهد بيرمان للأخلاقيات البيولوجية بجامعة جونز هوبكنز: “الهدف من هذا القانون مقلق جدًّا، ولكن فوق ذلك، من المهم أن نشكك في العلم الذين يزعمون أنّه راء هذا القانون. أنا مقتنعة تمامًا أنهم لن يستطيعوا فعل ما يقولون إنّه يمكنهم القيام به؛ إذ لا يمكن فحص الحمض النووي لشخص ما والقول بشكل قاطع ما إذا كان عضوًا في جماعة عرقية أم لا“.

وأضافت هارينغتون ريدي: “إنهم قد يستغلون فكرة الاختبارات الجينية كنوع من التمويه، لكنهم في الحقيقة يختبرون الأشخاص الذين هم من عائلات البدون ويجردونهم من الجنسية الكويتية“.

ونتيجة لذلك، سوف يتأثر الزوار والسياح بسبب هذا القانون. ويجري حاليًا إنشاء محطة في مطار الكويت ستطلب من جميع الوافدين الجدد تقديم عيّنات من الحمض النووي من خلال مسحات الخد أو عينات الدم. وقال مسؤول من وزارة الخارجية إنَّ الوزارة على “دراية تامة” بالقانون، لكنه رفض التعليق على ما إذا كان هذا القانون قد أثار مخاوف داخل الحكومة الكويتية. وقال مسؤول من البنتاغون إنَّ الموظفين العسكريين في العديد من القواعد والمعسكرات الأمريكية في الكويت “لا يتأثرون حاليًا بهذه المتطلبات” ورفض الإدلاء بمزيد من التعليقات.

ورفض مسؤولون في السفارة الكويتية ووزارة الداخلية التعليق.

غُيِّر الجدول الزمني المحدد لتنفيذ جمع عيّنات الحمض النووي عدة مرات، ولكنَّ الخطوة الأولى في العملية أصبحت وشيكة. إذ تسلمت وزارة الداخلية الكويتية الأسبوع الماضي أول دفعة من جوازات السفر الإلكترونية الجديدة، وسيكون جمع عيّنات الحمض النووي إلزاميًا، وقريبًا ستُنشَأ مراكز للمقيمين والمواطنين في جميع أنحاء البلاد، وستُجرى اختبارات للأطفال الحديثي الولادة.

“وسيكون الحمض النووي شرطًا لتسجيل الأطفال الذين تجاوزا ستة أشهر، المولودين في الكويت أو خارجها من أجل منع إضافة أي شخص إلى ملفات المواطنة بصورة غير قانونية“، وذلك وفق تصريحات اللواء مازن الجراح، وكيل وزارة الداخلية المساعد لشؤون الجنسية والجوازات لصحيفة كويت تايمز.

مشاكل اجتماعية

البصمة ٤

وهناك طريقة أخرى يمكن أن يصنع من خلالها القانون الفارق؛ وهي أنه من المرجح أن يكشف عن الزناة والنساء اللاتي لديهنّ أطفال خارج إطار الزواج، وهذه الجرائم لها عقوبات شديدة في البلاد علاوة على ما قد يترتب عليها من مشاكل اجتماعية. المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، وهي مؤسسة دينية طبية تتخذ من الكويت مقرًا لديها سياسة ذات نفوذ واسع في العالم الإسلامي، أقرّت أدلة الحمض النووي كوسيلة لإثبات الأنساب في سياق محاكم الأسرة الإسلامية.

وقالت هارينغتون ريدي: “على المدى الطويل يمكن أن يكون لهذا القانون آثار ضارة جدًّا؛ لأنَّ الناس الذين يريدون أن يكونوا كويتيين سيتضح أنهم في نهاية المطاف ليسوا كويتيين. وأنا لا أعرف ما الذي تفكر فيه دولة الكويت حقًا في نهاية هذا الأمر، ولكني على يقين من أن هذا سيكون له عواقب غير مقصودة“.

على سبيل المثال، ماذا لو كان البدون يرتبطون بشكل وثيق بالكويتيين “الأصليين” أكثر مما كان متوقعًا؟ ماذا لو كشف اختبار الحمض النووي عن مخالفات واختلاط أنساب داخل الأسرة الحاكمة؟

“كم عدد القصص التي سنسمعها عن الآباء الذين يكتشفون أنَّ أطفالهم ليسوا من أصلابهم؟” هكذا تساءلت مدونة “الحياة في الكويت“، التابعة لامرأة أمريكية مجهولة تعيش في البلاد.

وكتبت هذه المرأة الأمريكية في مدونتها: “الوضع سيكون أسوأ مما يتوقع الجميع“.

المصدر: Fusion