محليات

دراسة قانونية
د. تركي المطيري يكتب.. الرقابة البرلمانية على السر المصرفي في ميزان الدستورية

 شهدت الساحة المحلية مؤخرا تداول بعض الأخبار والتسريبات عن وجود شبهات مالية مرتبطة ببعض أعضاء مجلس الأمة، وتعددت التكهنات حول مصدر هذه الأموال التي يشتبه في إيداعها في الحسابات البنكية لهؤلاء النواب وسببها ومشروعيتها القانونية، الأمر الذي جعل تدخل سلطات الدولة ومؤسساتها ـ عن طريق صلاحياتها القانونية والدستورية ـ لكشف خبايا هذا الموضوع أمرا ملحا وواجبا دستوريا ووطنيا.

     وواجب السلطات العامة في القيام بصلاحياتها الدستورية والقانونية يقع على عاتق السلطات الثلاث جميعها، فالسلطة التنفيذية عليها العمل على كشف خبايا هذا الموضوع عن طريق مؤسساتها لاسيما وزارة المالية والبنك المركزي، خاصة وأن الأخير يملك صلاحيات واسعة للرقابة والتفتيش على أعمال البنوك.

     كما أن هذا الواجب يسري على السلطة القضائية ممثلة بالنائب العام وجهاز النيابة العامة، للتحقق من شبهة ارتكاب بعض الأعمال التي يجرمها القانون العام، ومنها على سبيل المثال جرائم الرشوة وغسيل الأموال، وذلك باعتبار أن النيابة العامة ممثلة المجتمع في ممارسة الضبطية القضائية وملاحقة المجرمين، والقيام بهذا الواجب لا يتطلب وجود شكوى من جهة محددة، بل يجب أن تقوم النيابة العامة بدورها المنوط بها قانونا، ولا يعفيها من هذا الواجب انعدام وجود الشكوى، فهذه الجرائم ليست من الجرائم التي يتطلب القانون تقديم شكوى بشأنها لتحريك الدعوى الجزائية.

     كذلك الحال بالنسبة للسلطة التشريعية ممثلة الأمة، بل أنها أحرى السلطات بالقيام بهذا الواجب نظرا لأن الأفراد الذين تحوم حولهم الشبهات هم أعضاء في هذه السلطة، وعليه فإنه يجب على مجلس الأمة ممارسة اختصاصاته واستخدام أدواته الدستورية للكشف عن خبايا هذا الموضوع، سواء كان ذلك عن طريق الأسئلة البرلمانية أو الاستجوابات أو لجان التحقيق البرلمانية.

     إلا أنه قد تثور إشكالية قانونية ودستورية في شأن ممارسة مجلس الأمة لاختصاصاته الدستورية في هذا الشأن، وتتمثل هذه الإشكالية في الاصطدام مع سرية بعض البيانات والمعلومات لاسيما المتعلقة بالعمل المصرفي، فإذا كان حق البرلمان في الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية مقرر بنصوص دستورية صريحة قاطعة في معناها، فهل تمنع سرية المعلومات مجلس الأمة من ممارسة دوره الدستوري ؟ وهل تتمتع هذه البيانات بحصانة السرية أمام الاختصاص الدستوري لمجلس الأمة في الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية ؟ وهل تحد هذه السرية من صلاحيات ممثلي الأمة في الكشف عن الفساد والمفسدين ؟

     إن إضفاء السرية على المعلومات أو البيانات قد يتقرر بنص في الدستور، كما قد يتقرر بنص في تشريع يقل عن الدستور في المرتبة والقوة، والأمر في الحالتين ليس على قدر واحد، وبيان ذلك يكون على الوجه التالي:

أولا: السرية المقررة بتشريع يقل عن الدستور في المرتبة:

     قد تتقرر سرية المعلومات أو البيانات بنصوص القانون العادي، أو بلائحة أو بقرار إداري، ومن ذلك على سبيل المثال نص المادة (28) من القانون رقم 32/1968 في شأن النقد وبنك الكويت المركزي والمهنة المصرفية، حيث أضفت السرية على المعلومات المتعلقة بشئون البنك المركزي أو عملائه أو بشئون البنوك الأخرى الخاضعة لرقابة البنك المركزي، والتي يتم تحديدها بقرار من وزير المالية، واستثنت من ذلك الأحوال التي يصرح فيها القانون بكشف السرية، وقررت عقوبة الحبس والغرامة أو إحداهما على مخالفة ذلك.

ويظهر أن هناك تعارضا بين حق البرلمان ممثل الأمة في الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية من جهة، وسرية المعلومات المنصوص عليها في المادة المشار إليها، إلا أن الترجيح بين النصين يميل ـ بلا شك ـ لصالح النصوص الدستورية التي تكفل حق البرلمان في الرقابة، وسند ذلك هو مبدأ تدرج القواعد القانونية، ففي حال التعارض بين نصين يقدم الأعلى مرتبة، وفي حالتنا هذه يقدم النص الدستوري باعتباره الأقوى ويهمل أي نص قانوني يتعارض معه.

وقد رجحت المحكمة الدستورية ـ في قرارها التفسيري رقم 1/1986 ـ إعمال حق البرلمان في التحقيق البرلماني عند تعارضه مع السرية التي يفرضها القانون العادي، وذلك بالاستناد إلى حجتين هما:

أ – مبدأ تدرج القواعد القانونية، أو بعبارة أخرى ترجيح النص الأقوى على النص الذي يقل عنه قوة ومرتبة، حيث رفضت الاحتجاج بالمادة (28) من قانون البنك المركزي لإضفاء السرية على محاضر البنك وأعماله في مواجهة النص الدستوري الذي يقرر حق مجلس الأمة في إجراء التحقيق البرلماني، وتقول المحكمة في ذلك “أن الأمر لا يجوز أن يؤخذ على إطلاقه إزاء الحق الدستوري المقرر لمجلس الأمة في المادة (114) من الدستور، ذلك أن المادة (28) من قانون البنك المركزي وإن كانت تحظر على أي من موظفي البنك المركزي أن يفشي أية معلومات تتعلق بشئون البنك أو عملائه أو شئون البنوك الأخرى الخاضعة لرقابته، حماية للأسرار البنكية، إلا أن هذه الحماية ـ وهي مفروضة بنص قانوني ـ لا يمكن التحدي بها في هذا الخصوص، إذ إنه إعمالا لمبدأ تدرج القواعد القانونية فإنه ينبغي عدم الاحتجاج بقاعدة قانونية أدنى في مواجهة قاعدة أعلى مقررة بنص الدستور وهو أسمى وأقوى من النص القانوني العادي، بما يضحي معه النص الدستوري هو الأولى بالرعاية والإعمال، مما يخلص القول معه بأنه لا يجوز الاحتجاج بما ورد في المادة المذكورة من حظر في مواجهة سلطات الدولة العامة ـ ومنها التشريعية ـ والتي يدخل البنك في دائرة سلطانها الرقابي والتشريعي”.

ب – تغليب الصالح العام على المصالح الخاصة للأشخاص: حيث أن المصلحة التي يحميها نص المادة (114) من الدستور بتقريره حق البرلمان في التحقيق تفوق في أهميتها المصلحة التي تحميها النصوص القانونية التي تفرض السرية على بعض البيانات المتعلقة بالأفراد، ولذا يجب ترجيح المصلحة العامة على المصالح الفردية، حيث تذهب المحكمة الدستورية إلى هذا المعنى بقولها “وكذا الأمر بالنسبة للالتزام المتعلق بسر المهنة المصرفية فهو الآخر ليس التزاما مطلقا، بل هناك حالات تبرر الخروج عليه لاعتبارات تفوق أهميتها مصلحة صاحب الأسرار، وذلك حينما يتطلب الأمر تغليب المصلحة العامة وهي الأولى بالرعاية من حفظ السر”.

     ومن نافلة القول التأكيد على أن السرية المقررة بنص في لائحة أو قرار إداري لا تمنع مجلس الأمة من ممارسة اختصاصه الدستوري في الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية من باب أولى، وذلك وفقا لنفس المبدأ وهو تدرج القواعد القانونية.

ثانيا: السرية المقررة بنص في الدستور:

يدق الأمر في حال تقرير السرية بنص في الدستور، وتظهر الإشكالية في أوضح حالاتها، بالنظر إلى أن التعارض بين السرية في هذا الصدد وبين حق البرلمان في الرقابة البرلمانية على أعمال السلطة التنفيذية يكون بين نصين دستوريين يتمتعان بنفس القوة.

وينبغي التأكيد على أنه لا يوجد في الدستور الكويتي نص صريح يقرر سرية بعض البيانات والمعلومات في مواجهة حق البرلمان في الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية بالأدوات التي كفلها الدستور للبرلمان في ذلك، وهي الأسئلة والاستجوابات وطرح موضوع عام للمناقشة والتحقيق البرلماني، إلا أن المحكمة الدستورية استندت إلى المادة (30) من الدستور التي تقرر أن “الحرية الشخصية مكفولة”، واستنبطت منها تقرير حق الأفراد في الخصوصية، وجعلت من تطبيقات هذا الحق سرية البيانات المصرفية والحسابات البنكية، وهنا يثور التساؤل: هل تقيد سرية البيانات المصرفية حق مجلس الأمة في الرقابة البرلمانية؟

     لقد أثير هذا الأمر أمام المحكمة الدستورية، وقررت في هذا الصدد ـ في قرارها التفسيري رقم 1/1986 ـ أن حق البرلمان في التحقيق يشمل جميع أعمال البنك المركزي، ويملك عضو مجلس الأمة المنتدب من المجلس للتحقيق الاطلاع على كافة الوثائق والأوراق والبيانات، إلا أنها استثنت من ذلك التعرض لما فيه مساس بأسماء وأصحاب المراكز المالية، وهو موقف محل نظر كما سنبين لاحقا.

     وعلى الرغم من ذلك، فإن المحكمة الدستورية عادت في قرارها التفسيري اللاحق رقم 2/1986 فقررت أن حق مجلس الأمة في إجراء التحقيق البرلماني يشمل عقد القرض الذي أبرمته مؤسسة تسوية المعاملات المتعلقة بأسهم الشركات التي تمت بالأجل عن طريق البنك الصناعي، والاطلاع على جميع البيانات المتعلقة بهذا القرض بما في ذلك أسماء المستفيدين من القرض، رغم السرية المفروضة على الأسماء بحكم القانون من جهة، ودون اعتبار للحق في الخصوصية المستنبط من الحرية الشخصية المقررة بالمادة (30) من الدستور، إلا أنها بررت ذلك بأن الأسماء نالتها العلنية وانتفت عنها السرية.

     وأيما كان موقف المحكمة الدستورية، وبغض النظر عن أسباب اتخاذها هذا الموقف، فإننا نعتقد أن حق البرلمان في الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية أولى بالرعاية والاعتبار من حق الأفراد في الخصوصية، ويرجع ذلك لعدة أسباب من أهمها ما يلي:

أولا: أن حق البرلمان في الرقابة مقرر بنصوص صريحة قاطعة في الدستور، على خلاف الحق في الخصوصية المستنبط من الحرية الشخصية، ولا شك أن الحق الصريح القاطع يرقى على الحق الضمني، حتى وإن كان سند الحقين نصوص الدستور.

ثانيا: إن استخدام الحكمة التشريعية للترجيح بين الحقين المشار إليهما تنتهي لصالح ترجيح حق التحقيق البرلماني على الحق في الخصوصية، وذلك بالنظر إلى رجحان المصالح التي يحميها الحق في التحقيق وهي مصالح تتعلق بحق الأمة في الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية عن طريق ممثليها أعضاء مجلس الأمة، على المصالح التي يحميها حق الأفراد في الخصوصية وتعلقها بعدد من الأفراد قل هذا العدد أو كثر، فالموازنة بين الحقين تفضي إلى ترجيح المصلحة العامة على المصالح الفردية مهما اتسع نطاقها أو بعد مداها، بل انه حتى لو اعتبرنا الحقين عامين متعلقين بالجماعة فإن حق الأمة في الرقابة البرلمانية أولى وأهم من حق الأفراد في الخصوصية مما يقتضي ترجيح الأول على الثاني، وقد أشارت المحكمة الدستورية إلى أهمية المصلحة التي يحميها الحق في التحقيق البرلماني وتفوقها في صدد مقارنتها بالمصلحة التي يحميها حق الأفراد في السرية المفروضة بنصوص القانون العادي.

    نخلص من جماع ما تقدم إلى أن حق مجلس الأمة في الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية لا يمكن القبول بمصادرته وتقييده تحت أية ذريعة ولاسيما سرية العمل المصرفي، حيث أن ذلك يشكل اعتداء على اختصاصات مجلس الأمة المقررة في الدستور، وتعطيلا للرقابة البرلمانية دون سند دستوري أو قانوني معتبر، ويمنح الفاسدين والمفسدين حصانة ليسوا جديرين بها أو أهلا لها، ويرفع عن الأموال العامة حمايتها ويستبيح حرمتها، وهذا ما لا يقبل به المنطق القانوني السليم، ولا الفهم السديد للنصوص الدستورية .

سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين

د. تركي سطام المطيري

أستاذ القانون الدستوري والإداري