أقلامهم

رسالة إلى مسلم البراك

إلى الأخ العزيز مسلم البراك، قبل أيام من خروجه من محبسه..

أوجّه كلماتي هذه التي تعكس هموم محب للكرامة الإنسانية ومدافع عنها، إلى من التزم برسالته وأوفى بوعوده وضحّى براحته وسعادته وبأغلى ما يملك وهي حريته في سبيل تحقيق هدفه الإصلاحي المتعلق بكرامة الإنسان قبل أي شيء آخر، وشتّان بين من يحب ويدافع وبين من يضحّي بحريته. فأحييك أيها الأبيّ وأبارك خروجك من المحبس.

إن كلماتي هذه لا تتعلّق بصُوَر النصح التي عادة ما تُوجّه إلى كل سجين ينهي فترة سجنه، فالسجن في ظل الظروف التي مررت بها هو مسؤولية اجتماعية تتعلق برسالة الإصلاح السياسي التي حملتها ولا تزال تحمل همّ تحقيقها رغم كل المرارات، والسجين هو رمز من رموز الدفاع عن محتوى هذه الرسالة وقدوة من عشرات مثلها منتشرة عبر تاريخ حراك الشعوب، لذا يُفترض أن يوجه شخصك الكريم النصح لي ولنا، فمن أفنى فترة من سني عمره بين جدران اللاحرية من أجل الدفاع عن هدفه ورسالته، له كل الحق في أن يوجّهنا لتحقيق هذا الهدف. فيا أيها الأخ العزيز، بما أنك اخترت أن تسير في طريق المصاعب وأن تتحمّل المشاكل والمضايقات وأن تضحّي بحريتك، فإننا لا نملك إلاّ أن نحيّي اختياراتك وأن نحترم شجاعتك وتضحياتك.

لكن، وفي ضوء رسالتي القصيرة هذه، سأتوقف عن المديح وسأطرح نقاطا واضحة ومباشرة وسأختمها بسؤال، لعلّ ذلك هو لازمة من لوازم فترة ما بعد السجن وشرط من شروط مجاراة الواقع السياسي في البلاد. فالمرحلة الراهنة لا تتطلب النصح بقدر حاجتها إلى الالتزام بالمبادئ الحقوقية والالتفات لقيم الحياة الحديثة، وهذا يستدعي السعي لتشخيص موضوعي وشفاف وعقلاني لهموم الوضع الكويتي، ويتطلّب الانطلاق من المشتركات الحقوقية التي تمليها علينا حاجة التعايش الوطني وتفرضها علينا قيم العدالة والحرية واحترام حقوق الإنسان، ويلزم الابتعاد قدر الإمكان عن كل ما يضعف هدف الإصلاح ويعرقل طرق تحقيقه ويفرّق المجتمع ويقطّعه أوصالا دينية وطائفية وفئوية وعنصرية.

وعلى الرغم من أن الحركة المجتمعية الإصلاحية، أو ما يسمى بالحراك، مليئة بالمثالب (وهذا لا يعيبها، بل ما قد يعيب هو عدم الالتفات إلى هذه المثالب)، إلاّ أن مواقفك وتضحياتك وأحلامك في هذا الإطار تُحمّلك مسؤولية النظر إليها والبحث عن خطوات علاجية لها، ولابد أن تستند هذه الخطوات، حسب رؤيتي للمشهد، إلى تجاوز ما يُطرح من أفكار ضيقة تحجّم تفسير الإصلاح وتعرقل تحقيقه بل قد تدفنه وتجعله شيئا من التاريخ، خاصة الأفكار الطائفية لبعض التوجهات الدينية، والأفكار العنصرية التي تنتصر لفئة على أخرى، والأفكار المناهضة لأبسط صور الحريات الكونية المنتشرة في معظم دول العالم، والأفكار التي تجهض حق الرأي والتعبير وتحاصر الإبداع والمبدعين وتبسط يد الوصاية التاريخية على المرأة، حيث يتبنى العديد من المنتمين للحراك لمثل هذه الأفكار.

ورغم إنني لا أشك في انفصالك عن كل ما يمت للتمييز بصلة، لكني أشاهد كما يشاهد غيري بوضوح كمية الأفكار التمييزية، الطائفية والعنصرية والمناهضة للحريات، المنتشرة بالقرب من خطواتك وتحرّكاتك ولدى المقرّبين منك، والتي في تصوّري لابد من اتخاذ موقف واضح وصريح وشفاف تجاهها، من أجل أن لا تكون هذه الأفكار معول هدم في جدار الدفاع عن الإصلاح ولا تتحوّل إلى جرثومة تفتك في جسم الوطن والمواطن. فكرامة الوطن لا تتجلى إلا عن طريق تحقيق كرامة الإنسان.

لقد طرحت نفسك رمزا في هذا الطريق الإصلاحي الشائك وأعتقد بأنك أهل لذلك، وما تضحيتك بحريّتك إلا دليلا نيّرا على ذلك، غير أن هذا الطريق لا يستوي وهذه الرمزية لا تُحقّق تقدّما أو نموّا إلا بالدفاع عن حقوق الإنسان الفرد أيّاً كانت هويّته وانتماءه وتوجهه، فالفرد هو محور الحياة الحديثة التي نعيش في ظلّها، ولا يمكن دعم فكرة الإصلاح دون الانتصار لحق الفرد في العيش بحرية ولا نستطيع الاستمرار في هذا الطريق دون ضمان حقوق الفرد الحياتية الحديثة التي تتجاوز الكثير من الأطر التقليدية.

كذلك، من ضرورات المرحلة الراهنة الدفاع عن كافة مكوّنات المجتمع والتفاهم معها ورفض تهميشها أو حتى إشعارها بالتهميش، لاسيما المكوّنات التي تشتكي من انتهاك مطالبها وتتحدّث عن ظلم الأكثرية لها. كما أن مساعي تحقيق الإصلاح لا تكمن فحسب في التحرّك بالساحة السياسية على الرغم من أهمية ذلك، فالأوضاع السياسية في معظم الدول هي نتاج ثقافة أفراد المجتمع، أو بكلمات أخرى لا يمكن للإصلاح السياسي وحده أن يكون ضمانة لتغيير الأوضاع، بل ما يمكن أن يشكّل ضمانة كبيرة في سبيل الوصول إلى التغيير هو الإصلاح الثقافي.

إن الرمز الجنوب أفريقي الراحل نيلسون مانديلا قال في جانب من رسالته التي وجّهها إلى النشطاء العرب عام ٢٠١١، وخاصة النشطاء في تونس ومصر، التالي: “إن إقامة العدل أصعب بكثير من هدم الظلم، فالهدم فعل سلبي والبناء فعل إيجابي”. وعليه، وانطلاقا مما فات، أختم رسالتي بالسؤال التالي: ماذا بعد السجن؟ أو بعبارة أخرى: هل يؤمن العزيز مسلم البراك بضرورة رسم طبيعة جديدة لخارطة الإصلاح السياسي للفترة الراهنة والقادمة، تعالج ثغرات الفترة اللاحقة، وأنه يجب أن تتوافق هذه الطبيعة مع متطلبات وظروف المرحلة وتتجاوز الأفكار والأطروحات الضيقة؟..
شكرا لقراءتك، ومبروك مجدّدا خروجك إلى فضاء الحرية.

المُرسل/ فاخر السلطان