برلمان

الدستور لم يوضع لإجهاض إرادة الأمة

تعليقا على حكم المحكمة الدستورية الصادر بجلسة 2023/3/19 في الطعن رقم 2023/11 بشأن مرسوم حل مجلس الأمة الصادر بتاريخ 2022/8/2
منذ صدور مرسوم حل المجلس ثم الدعوة لانتخابات مجلس جديد، ثارت الكثير من النقاشات والتكهنات حول مصير ذلك المجلس، وكان حكم المحكمة الدستورية القاضي بإبطال مجلس فبراير 2012 يلقي بظلاله على تلك النقاشات والتكهنات التي لم تكن تعطي قيمة كبيرة للمزاعم بوجود أخطاء قد تكون شابت عملية الحل أو الإجراءات التي لحقتها وأن هذه الأخطاء قد تؤدي لإبطال المجلس، إدراكا من عموم الناس أن أمر ابطال المجلس لا يتعلق في حقيقته بالاعتبارات القانونية أو بمدى صحة أو عدم صحة تلك المزاعم، وإنما يتعلق بشكل أساسي بموازين القوى وطبيعة وأطراف الصراع السياسي التي تحكم المشهد وتتحكم في مآلاته.
فقد تكونت لدى معظم الناس – نتيجة للخبرات التي تراكمت لديهم – عقيدة تقضي بأن الرغبة السياسية المدعومة بميزان قوى راجح لها قادرة على نقض وهزيمة الحقائق القانونية مهما كانت تلك الحقائق واضحة وساطعة. وأن إلباس الرغبات السياسية المستترة لبوسا قانونيا ظاهرا لتبريرها، أصبح مسلكا دارجا وشائعا، مهما كان هذا اللبوس رثا وعاجزا عن ستر تلك الرغبات الكامنة خلفه. كما أن إيجاد مبررات قانونية من هذا النوع لا يعجز أحد، وسيجد في سوق المختصين أو السياسيين من يتبناها ويحملها لبيعها على الناس.
وفي ظل هذه العقيدة التي تشكلت عند عموم المجتمع جاء حكم المحكمة الدستورية الذي قضى بإبطال المرسوم الصادر بحل مجلس الأمة وبطلان العملية الانتخابية التي جرت بتاريخ 29/9/2022، وبعودة المجلس المنحل.
وبعد صدور الحكم سنجد من يلقي باللوم على الإجراءات التي تم بموجبها اصدار مرسوم الحل، وبعض الناس يتخذ مثل هذا الموقف بحسن نية، مفترضا صحة الحكم دون تمحيص، إلا أن البعض الآخر يتخذ هذا الموقف بسوء نية قاصدا تجهيل الوعي وتغييب الحقائق. والذي يشجع على تبني مثل هذا الموقف هو أنه موقف آمن ليس فيه تبعات، كما أنه موقف يظهر صاحبه بأنه معارض شرس للإجراءات الحكومية، وبذلك يكون قد جمع بين الإيحاء بالمعارضة مع التزام الموقف الآمن. إلا أن هذا الموقف لا يناقش مسائل أساسية ورئيسية في هذا الشأن وهي: مدى صحة حكم المحكمة الدستورية؟ وأين المنطق في تحميل الأمة مسؤولية أخطاء مزعومة ليست هي المتسبب فيها؟! هذا إن كانت هذه الأخطاء قد وقعت أصلا. وكيف بات الدستور يستخدم للانقلاب على إرادة الأمة التي اعتبرها ذات الدستور هي صاحبة السيادة ومصدر السلطات؟! وكيف استخدم الدستور لتشويه الإرادة الشعبية من خلال إضفاء شرعية غير مستحقة على مرسوم الصوت الواحد؟! وكيف تم اجهاض هذه الإرادة من خلال بدعة الإبطال بمبررات واهية واهنة؟! وكيف يتم إعادة الشرعية لمجالس فقدت شرعيتها الشعبية وتم حلها استجابة لإرادة الأمة، وكيف يتم تمكين أطراف ليكونوا ممثلين للأمة بعد أن أسقطتهم الإمة بصناديق الانتخاب؟! ولمصلحة من يتم إدخال البلد في حالة من الارتباك وعدم اليقين في ظل فوضى قانونية مصحوبة بهز لاستقرار المؤسسات؟!
ومن المؤسف أن هذه الحقائق التي بات الكل يرصدها ويشاهدها، أصبح كثير من الناس يشعر بالعجز في مواجهتها، بعد أن أصيب المجتمع بالإرهاق الشديد نتيجة الرغبة في معاكسة توجهاته وإجهاض إرادته مرارا وتكرارا، وهي وضعية تحتاج لوقفة جادة للمراجعة وتصحيح المسار.
ولا يتسع المقام لمناقشة كل هذه القضايا والنقاط على أهميتها، ولكن كان من الضروري الإشارة إليها على هامش الأحداث قبل التطرق لحكم المحكمة الدستورية الأخير الذي نحاول في هذه الورقة إلقاء بعض الضوء عليه والتعليق على ما جاء به من أسباب، في محاولة لبيان مدى اختصاص المحكمة الدستورية في إصدار أحكام من هذا النوع، ومدى صحة الأسباب التي قام عليها قضاءها.
أولا: الأساس الذي قام عليه الحكم والنتيجة التي انتهى إليها:
أسس الحكم المشار إليه قضاءه على سند من القول أن: “للمحكمة أن تباشر رقابتها على المرسوم الصادر بالحل للتأكد من مدى التزامه بالقيود والضوابط الدستورية… وأن الحل قد جاء استنادا إلى المادة (107) من الدستور، بسبب ما ثار من خلاف بين الحكومة السابقة ومجلس الأمة والذي أفضى إلى ما وصفه مرسوم الحل بعدم التوافق وعدم التعاون والاختلافات، فإن لازم ذلك أن يكون هذا الحل بناء على طلب الوزارة التي ثار الخلاف بينها وبين مجلس الأمة، فإذا كانت هذه الوزارة قد قبلت استقالتها بكاملها وتم تعيين رئيس جديد لمجلس الوزراء قام بتشكيل وزارة جديدة وصدر مرسوم بها، فإن الخلاف وعدم التعاون بين مجلس الأمة والحكومة السابقة يكون قد انتهى أمره وزال أثره، إلا أن الوزارة الجديدة قد استهلت أعمالها في اليوم التالي لتشكيلها بطلب حل مجلس الأمة، دون أن تتبين موقف ذلك المجلس منها ومدى إمكانية التعاون بينهما، وإذ صدر مرسوم الحل بناء على هذا الطلب مستندا إلى “عدم التوافق” و “عدم التعاون” و “الاختلافات”، على الرغم من أن هذا السبب قد انقضى أمره بتشكيل الحكومة الجديدة وكان غير قائم وقت صدور المرسوم، فإن الحل يكون بذلك مفتقدا للسبب المبرر له مخالفا الضوابط الدستورية سالفة البيان”.
وبناء على كل ما تقدم انتهت المحكمة إلى إبطال عملية الانتخابات برمتها التي أجريت بتاريخ 29/9/2022 في الدوائر الخمس لبطلان حل مجلس الأمة وبطلان دعوة الناخبين لانتخاب أعضاء مجلس الأمة، مع ما يترتب على ذلك من آثار أخصها أن يستعيد المجلس المنحل سلطته الدستورية وكأن الحل لم يكن.
ثانيا: التعليق على ما جاء بالحكم من أسباب:
وما جاء بأسباب الحكم لا يقوم على سند صحيح ومخالف للدستور والقانون ومناقض للواقع، وهذا ما نتناوله في وجهين، نبين في الأول انتفاء اختصاص المحكمة الدستورية، ونتناول في الثاني التعليق على الأسباب الموضوعية الواردة في الحكم وذلك على التفصيل التالي:
الوجه الأول: انتفاء اختصاص المحكمة الدستورية:
في نظرها للطعون الانتخابية تحمل المحكمة الدستورية صفتين، الصفة الأولى هي كونها محكمة دستورية مختصة في النظر بدستورية القوانين والمراسيم بقوانين واللوائح، أما الصفة الثانية فهي كونها محكمة موضوع تختص في الفصل في صحة العضوية. والمحكمة الدستورية بصفتيها المشار إليهما غير مختصة في النظر بمراسيم الحل التي تصدر طبقا لنص المادة (107) من الدستور.
حيث تنص المادة رقم (1) من قانون إنشاء المحكمة الدستورية رقم 14/1973 على أن: “تنشأ محكمة دستورية تختص دون غيرها بتفسير النصوص الدستورية وبالفصل في المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين والمراسيم بقوانين واللوائح وفي الطعون الخاصة بانتخابات مجلس الأمة أو بصحة عضويتهم…”
وحيث أن مراسيم الحل التي تصدر طبقا لنص المادة (107) من الدستور لا تدخل ضمن طائفة القوانين أو المراسيم بقوانين أو اللوائح، وبالتالي فإنها لا تكون خاضعة لرقابة المحكمة الدستورية.
وننوه هنا إلى أن المراسيم بقوانين هي تلك التي تصدر طبقا للمادة (71) من الدستور، أما اللوائح فهي التي تصدر طبقا للمادتين (72)، (73) من الدستور، وهذا النوع من المراسيم هي التي تكون خاضعة لرقابة المحكمة الدستورية. أما المراسيم العادية ذات الطبيعة الإدارية والسياسية (التي ليست مراسيم بقوانين ولا مراسيم ذات طبيعة لائحية) كالمراسيم التي تصدر بتعيين بعض الموظفين (المادة 74)، أو مراسيم العفو (لمادة 75) أو مرسوم إعلان الحرب الدفاعية (المادة 68)، فهذه المراسيم لا تدخل في اختصاص المحكمة الدستورية ولا تخضع لرقابتها، وذلك طبقا لنص المادة (1) من قانون انشاء المحكمة المشار إليها سلفا، ومن هذه المراسيم المرسوم الذي يصدر بحل المجلس طبقا للمادة (107) من الدستور.
هذا فيما يتعلق باختصاص المحكمة في الرقابة على دستورية القوانين واللوائح، أما فيما يتعلق باختصاصها بالنظر في الطعون الانتخابية، فقد نصت المادة (95) من الدستور على أن: “يفصل مجلس الأمة في صحة انتخاب أعضائه، ولا يعتبر الانتخاب باطلا إلا بأغلبية الأعضاء الذين يتألف منهم المجلس، ويجوز بقانون أن يعهد بهذا الاختصاص إلى جهة قضائية”.
ومن ذلك يتبين أن الاختصاص الأصلي للفصل في الطعون الانتخابية كان معقودا لمجلس الأمة طبقا لنص المادة (95) التي أجازت للمجلس أن يعهد بهذا الاختصاص إلى جهة قضائية، وبناء عليه أصدر المجلس القانون رقم 14/1973 بإنشاء المحكمة الدستورية وعهد إليها النظر بهذه الطعون.
وهذا يعني أن اختصاص المحكمة الدستورية في هذا الشأن هو فرع عن الاختصاص الأصلي المعقود للمجلس، وبالتالي فإن نظرها في تلك الطعون يفترض أن يكون في الحدود التي كانت مقررة للمجلس – صاحب الاختصاص الأصلي – ولا يتجاوز تلك الحدود، باعتبار أن المحكمة الدستورية – في هذه الحالة – قد حلت محل المجلس في هذا الاختصاص، وبالتالي فلا يجوز أن يكون اختصاصها الفرعي أوسع نطاقا من الاختصاص الأصلي الذي كان مقررا للمجلس، والذي عهد به إليها.
وبطبيعة الحال فإن الاختصاص الأصلي الذي كان المقرر للمجلس – فيما يتعلق بالفصل في صحة انتخاب أعضائه طبقا لنص المادة (95) من الدستور – لا يشمل ولاية الإلغاء على مراسيم الحل التي تصدر طبقا للمادة (107) من الدستور.
ومن كل ما سبق يتبين انتفاء اختصاص المحكمة الدستورية في النظر بالمراسيم الصادرة بحل المجلس طبقا لنص المادة (107) من الدستور، سواء باعتبارها محكمة دستورية أو باعتبارها محكمة طعون انتخابية.
الوجه الثاني: بطلان أسباب الحكم الموضوعية:
جاء بأسباب الحكم أن الحل كان بسبب خلاف بين المجلس والحكومة السابقة، وأن طلب الحل يفترض أن يكون بناء على طلب الوزارة التي ثار الخلاف بينها وبين المجلس، فإذا كانت هذه الوزارة قد استقالت وتم تكليف رئيس وزراء جديد وتشكيل حكومة جديدة فإن الخلاف بين المجلس والحكومة السابقة يكون قد انتهى أمره وزال أثره، ولأن الوزارة الجديدة قد استهلت أعمالها بطلب حل المجلس دون أن تتبين موقفه منها فإن الحل يكون مفتقدا للسبب المبرر له.
وبغض النظر عن مدى اختصاص المحكمة في الرقابة على أسباب الحل وتقديرها لتلك الأسباب، إلا أن ما جاء في حكمها يكشف عن مجافاة صارخة للواقع وغض للطرف عن الأحداث الكبيرة التي سبقت وصاحبة حل المجلس، كما أنها افترضت أسباباً غير صحيحة، ولم ترد في مرسوم الحل، وبنت حكمها – الباطل – عليها.
فمرسوم الحل لم يتكلم عن خلاف بين الحكومة والمجلس، وإنما جاء استجابة للإدة الشعبية، حيث جاء به نصا: “تصحيحا للمشهد السياسي وما فيه من عدم توافق وعدم تعاون واختلافات وصراعات وتغليب المصلحة الشخصية وعدم قبول البعض للبعض الآخر وممارسات وتصرفات تهدد الوحدة الوطنية، وجب اللجوء إلى الشعب باعتباره المصير والامتداد والبقاء والوجود ليقوم بإعادة تصحيح السار بالشكل الذي يحقق مصالحه العليا.”
بل إن الأحداث تكشف أن تكليف رئيس حكومة جديد – بعد استقالة الرئيس السابق – وتشكيل حكومة جديدة ما جاء أصلا إلا لسبب أساسي ورئيسي وهو انفاذ الرغبة الشعبية بحل المجلس السابق، وذلك استجابة للإرادة الشعبية التي كانت ترى ضرورة رحيل رئيس كل من مجلس الوزراء ورئيس مجلس الأمة.
فضلا عن ذلك فإن ما استدعى حل المجلس ليس الخلافات التي كانت بين المجلس والحكومة فقط، بل كانت أيضا بين أعضاء المجلس أنفسهم، وبينهم وبين رئيس المجلس، لدرجة جعلت أغلبية أعضائه يوقعون على عريضتين لعزل الرئيس في سابقة سياسية لم تشهد البلاد مثلها من قبل. وهو ما ترتب عليه تصاعد أزمة سياسية امتدت بأثرها للشارع، مصحوبة باعتصام أغلبية أعضاء المجلس داخل مبنى المجلس، وتزامن معها حركة احتجاجات واعتصامات في الشارع.
إلا أن حكم المحكمة الدستورية قد غض الطرف تماما عن كل تلك الحقائق الصارخة وتجاهل كل تلك الأحداث الواضحة لينتهي إلى ما انتهى إليه بقضائه الذي شابه فساد صارخ في الاستدلال ووهن عظيم في التسبيب بعد أن بني على تصورات تجاوز حد الخطأ في فهم الواقع إلى التناقض التام مع حقيقة هذا الواقع، وهذا من شأنه أن يؤدي إعادة الأزمة السياسية للمربع الأول بعد أن شهدت شيئاً من الانفراجة.
الخاتمة:
لقد أهدرت الإرادة الشعبية في أكثر من مناسبة – باسم الدستور – نتيجة أحكام مشوبة بالبطلان ومخالفة للدستور والقانون ومجافية للواقع، كما أن المراقب لأحكام المحكمة الدستورية في السنوات الماضية سيلاحظ تناقض في المبادئ التي تبنتها ثم عدلت عنها، مع تجاوز لحدود اختصاصها أحيانا وتراجع لما دون ما ينبغي أن تتصدى له أحيانا أخرى. وهذا المسلك قد ألقى بظلاله الثقيلة على الواقع السياسي لدرجة أدخلت الجميع في حالة من الارتباك وعدم اليقين، وهو ما أثر على استقرار مؤسسات الدولة والمجتمع بشكل عام، بل أنه بات يهدد النظام الدستوري برمته.
إن هذه الحالة قد جعلت القضاء بشكل عام – والمحكمة الدستورية بشكل خاص – في قلب الصراع السياسي، وأحد الأطراف المؤثرة فيه، وهو وضع يحتاج لوقفة تأمل حقيقية تقود لإعادة المراجعة وتصحيح المسار، وتكفل معالجة سريعة وجذرية تحفظ للقضاء دوره وتبعده عن مظنة التورط في الصراع السياسي، وتؤكد احترام إرادة الأمة باعتبارها صاحبة السيادة ومصدر السلطات، وتحفظ استقرار النظام الدستوري.
ويبقى أن نؤكد أن حكم المحكمة الدستورية المشار إليه لا يمكن أن يضفي شرعية على مجلس تم حله استجابة لإرادة الأمة، كما أنه لا يمنح شرعية لنواب قامت الأمة بإسقاطهم في صناديق الاقتراع قبل بضعة أشهر من صدور الحكم، وهو ما يستوجب الإسراع باتخاذ إجراءات جديدة لحل هذا المجلس والعودة لإرادة الناخبين، التي نرجو أن يتم احترامها فلا يتم تجاوزها أو القفز عليها بإبطال آخر.
تم بحمد الله،،،
إعداد المحامي/ فيصل صالح اليحيى
الوسوم