آراؤهم

“الربيع” قادم

حسب الفيلسوف الأمريكي لاري دايموند*، (في مقال له في “غلوبال جيوبوليتكس”)، فإن المجتمعات العربية كانت “متفائلة” بالربيع العربي الذي بدأ في ديسمبر عام 2010، لكن الاستبداد استطاع أن يثبّت أقدامه مجدّدا، فمصر ترزح تحت سلطة ديكتاتورية انقلابية وبحماية الجيش، وسوريا تمزّقها حرب داخلية مدمّرة ضحيتها مئات الآلاف من البشر وعناوين كثيرة من انتهاكات حقوق الإنسان، واليمن أسير نزاع داخلي يؤججه التدخل العسكري الخارجي، وليبيا ومنذ سقوط نظام معمر القذافي في 2011 تعيش انقساما شديدا وأغلب مدنها خارج سيطرة الحكومة كما أن تنظيم “داعش” لاعب رئيسي في النزاع، وتونس على الرغم من اعتبارها التجربة الناجحة في هذا الربيع بوصفها استطاعت أن تحقق نجاحات ديموقراطية إلا أن سياسييها يستعينون بالعديد من القوانين الأمنية الاستثنائية لتحقيق الاستقرار وللسيطرة على الاقتصاد وهذا من شأنه أن يؤثر على مستقبل الديموقراطية ويعرّضها للخطر.

في إطار هذه التجارب، وفي ظل استمرار وتيرة الاستبداد، يتساءل دايموند هل يمكن أن نغيّر المسار في المنطقة ونجعله يسير في الضد من الاستبداد؟

على الرغم من تأكيده على فشل الإصلاحات التي تديرها الحكومات، يشير دايموند إلى لجوء الحكام العرب إلى استخدام “عصا” العنف المفرط لكي يبقى نفوذهم وتستمر سلطاتهم، في مقابل رفعهم لـ”جزرة” الإصلاحات المحدودة جدا، وهذه العصا والجزرة بالنسبة إليهم خيار مهم وجذّاب، لمساهمته في تقليل المعارضين وفي تخفيف حدة اعتراضهم وتراجع مطالبهم وفي جعل البعض منهم يسير إلى في الطريق السياسي للحكام مؤيدين إصلاحاتهم المحدودة. لذا تختار هذه الحكومات سياسة “الخلط” بين الاستبداد وبين بعض ملامح الديموقراطية. فعلى سبيل المثال سمح ملك الأردن وملك المغرب بإنشاء أحزاب سياسية “معارضة”، لكن جعلا تلك الأحزاب تحت رقابة حكومية شديدة، كذلك سمحا لوسائل الإعلام بنقد الحكومات شريطة عدم تجاوز “الخطوط الحمراء” ومن هذه الخطوط عدم نقد الملك.

في ظل هذا السيناريو، يعتقد ناشطون سياسيون ومفكّرون بأن الانخراط في النشاط السياسي برعاية الحكومة، رغم النواقص التي تعتريه، يهيئ الفرص لتحقيق إصلاحات ديموقراطية. ووفق هذه النظرة، يستطيع أفراد المعارضة، الذين عادة ما ينحصر نشاطهم في دائرة ديموقراطية محدودة، أن يوسّعوا من نطاق هذه الدائرة لتتجاوز ما كانت الحكومة قد حددته لهم مسبقا. وعلى هذا الأساس، وبمرور الأيام، وعن طريق الإصلاحات الداخلية برعاية الحكومة، يعتقدون بأنهم يستطيعون تحقيق تغييرات ديموقراطية.

في تصوّر دايموند، فإن الهزائم التي تعرض لها الربيع العربي جعلت ناشطين وأحزاب في المعارضة ينضموا إلى هذا النشاط (النشاط السياسي برعاية الحكومة) رغم أنهم كانوا فعّالين أثناء حراك الربيع. وفي حين أن هذا النهج من حيث أهميته الإستراتيجية يعتبر نهجا منطقيا، لكن الشواهد كما يشير إليها دايموند تؤكد عدم وجود نتائج تفيد بإحداثه تغييرات ديموقراطية ملموسة على أرض الواقع، فالحكومات التي جاءت عن طريق هذه الرعاية لم تستطع، مثلا، أن تنجز المطالب الاجتماعية المتعلقة بمعيشة الناس أو المطالب المتعلقة بخلق فرص اقتصادية وبتحقيق العدالة الاجتماعية أو المطالب المتعلقة بسيادة القانون، وبدلا من أن تقّلل من غضب الناس نتيجة السياسات السابقة للسلطة الحاكمة، ساهمت في إشعال المزيد من الغضب وأجّجت من عدم الرضا الشعبي.

لذا، الدرس الذي يجب أن يتعلّمه الحكام العرب من السنوات الأخيرة، حسب دايموند، هو أن يَحِدّوا من عزل الناس عن السياسة، وأن يقلّلوا من عدم وثوق الشعب بالسياسات الحكومية المطروحة لمعالجة مشاكلهم، وأن يهيئوا الفرص لإنجاز إصلاحات حقيقية وبصورة تدريجية ومؤسّسية. فدايموند يعتقد بأن حكام الخليج والأردن والمغرب يستطيعون أن يحقّقوا انتقالا نحو الحكومة الدستورية القائمة على احترام الدستور وسيادته، لكنه يرى أن الإرادة اللازمة للانتقال نحو هذه الحكومة غير موجودة في كامل المنطقة، سواء كان هذا الانتقال تدريجيا أو دفعة واحدة.

يؤكد دايموند بأن الحكّام العرب لم يستطيعوا أن يهيئوا بديلا للعقد الاجتماعي القديم الذي كان يربطهم بشعوبهم، أي العقد الذي سلب من الشعوب حرياتهم السياسية/الاجتماعية لكنّه هيّأ لهم درجة متقدمة من الأمن الاقتصادي، وإذا كان هناك توجّه لطرح عقد اجتماعي جديد، فلابد حسب دايموند أن يحتوي على درجة مرتفعة من حرية التعبير للشعب، وعلى حقوق سياسية واقتصادية ورقابة على شؤون السلطات، وعلى سيادة حقيقية للقانون، كما أن جميع تلك الأمور تستلزم مكافحة الفساد. لكن دايموند يشير إلى وجود أنظمة فاسدة في المنطقة استطاعت أن تخنق المعارضة من خلال استخدام العنف المفرط ضدها، وحسب توقعاته فإن غيوما داكنة تتحرك في سماء هذه الأنظمة ولابد من وجود استراتيجيات لتهيئة بديل جديد للعقد الاجتماعي القديم، ولو بصورة تدريجية.

*دايموند، هو مدير مركز التنمية والديموقراطية وحُكم القانون في جامعة ستانفورد بكاليفورنيا، ومن كبار الزملاء في معهد هوفر، ومؤلف الكتاب المشهور “روح الديموقراطية: الكفاح من أجل بناء مجتمعات حرة”.