كتاب سبر

“أفْيَنَة العقول”..(2)

ذكرت في ختام مقالي السابق “أفينة العقول” أن من أهم أعمال الأمة اليوم إرجاع ما اكتسبه الحاكم من تفويض غير مشروط إلى التفويض المسؤول، وإن  دونها وذلك تفويضاً لا يقل خطورة عن هذا التفويض، بل هو الذي آزره ليستغلظ إلهياً غير منقوض.
إن هذا التفويض بالتفويض جاء نتيجةً لثقافة الألقاب، أعني ثقافة التلقي بسماع القائل لا بسماع المقول، أعني لولا هذا القائل لما سمع القول، ولولا هذا المؤلف لما قرأ أو اقتنى هذا الكتاب، أعني استضعاف العقل واستعباده باللقب.
إن فخامة لقب القائل تضفي على القول ما لا يضفيه قائله دونه، فإنك حينما تسمع حدثنا فلان، غير ما تسمع، حدثنا أمير المؤمنين في الحديث، خاتمة الحفاظ، بقية السلف، الإمام فلان، بغض النظر عن صدق اللقب وعدمه من وجوده، وكذا لايستوي من يسمع الفتوى بـ”هذا لا يجوز” ومن يسمعها بـ”هذا بدعة وليس من الإسلام في شئ”.
إن الأولى تعطي للقول المخالف احتمالاً بالقبول، وأما الثانية فتنسفه نسفاً، وبالأخص حينما تكون صادرةً عن”علّامة”، فحينها سيكون منطوقه دليلاً، وفتواه قاعدة لا تتخلف.
إنني حينما أتناول قضيةً مثل طاعة ولي الأمر وضوابطها في مجلسي وأنازع بما أعلم منها وما يعلمه مثلي من”الخوارج”، كثيراً ما أسأل: لم لا نسمع من هذا الذي نسمع؟!
وإن في هذا السؤال تساؤلاً: هل يخفَى على أصحاب الألقاب ما أعلمه؟!
إنني أعجب لبعض”العلّامات” لمن يستدل لطاعة ولي الأمر بحديث: ((تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع )) وإعمال هذا الحديث على إطلاقه، كيف يغيب عنه حديث: ((سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله))؟!!.
وكيف لم يصل إلى علمه وهو العلامة من سيرة أبي حنيفة لم سجن
ومالك لم ضرب، وغيرهم ممن خالف السلطان ممن لا يحصيهم العد؟!!.
إنني سأذكر مضطراً “مكافحةً للأَفْيَنَة” مالا سأخشى بسببه الإطالة من بعض أخبار علماء السلف، ما يضرب عن ذكره صفحاًعلماء البلاط.
قال الإمام الذهبي:
1-قد كان عبدالله بن علي ملكا جبارا، سفاكا للدماء، صعب المراس، ومع هذا فالإمام الأوزاعي يصدعه بمر الحق كما ترى، لا كخلق من علماء السوء، الذين يحسنون للأمراء ما يقتحمون به من الظلم والعسف، ويقلبون لهم الباطل حقا – قاتلهم الله – أو يسكتون مع القدرة على بيان الحق. (سير أعلام النبلاء (7/ 125).
2-الترمذي من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ” إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده “. تفسير القرطبي (9/ 114)
3-وكان مالك يقول: ضربت فيما ضرب فيه بن المسيب ومحمد بن المنكدر وربيعة ولا خير فيمن لا يؤذى في هذا الأمر. (تاريخ الذهبي 9/331)
 يعني مخالفتهم للسلطان الجائر.
لقد اعتمدت هذه الأفينة أو التخدير على صرف المتلقي عن القول الآخر ليستلب منه هؤلاء تفويضاً بتفويض السلطان.
إن سحب التفويض من مُفَوّضة السلطان يكون بتحرير هذه العقول المستعبدة بفخامة ألقاب هؤلاء بالعمل على إظهار القول المخالف، واختراق هذه القدسية، وإنزال صاحبها من سدة الحكم على غيره، إلى مكانه بينهم، وأقواله بين أقوالهم.
لاشك إن ما ذكرت ليس بالأمر الهين، وبالأخص أن شريحة هذه الثقافة، أعني ثقافة عبيد اللقب، يغلب على كثير من أصحابهاالتغفيل والافتتان، لكن ما نراه اليوم من تساقطٍ لرموز هذه الثقافة بعد حوادث الربيع العربي، كفيل بالتمهيد لانقلاب عليها، وتحريرأصحابها من عبودية ألقابها.