كتاب سبر

اليمن أول النهاية وسورية التالية
إيران من الشاه إلى التمذهب الفارسي التوسعي

ما الذي يقود إيران إلى هذا الوضع؟ ولماذا هذا الانفعال الشديد على التدخل العربي الذي تقوده السعودية في اليمن؟
من الواضح أنها صحوة سعودية بعد فقدان العراق، تستلهم مبادرة تحصين البحرين، ولا شك أنه عبر العلاقة المتجددة مع تركية ستكون المبادرة في سورية لهذا الحلف السعودي التركي، وعندما تفقد طهران نفوذها ويدها في سورية، تكون قد حانت ساعة مواجهة هيمنتها على العراق.
إنه مشهد بالغ السوريالية، لكنه يحتاج قبل كل شيء للتدقيق في البدايات.
وخير أو أفضل بداية لاستدراج جذور المشهد تبدأ من إيران نفسها.
نشبت الثورة الإسلامية في إيران ليس كاستثناءعما سمي حينه (الصحوة الإسلامية)، فقد كانت تلك أحد أدوات الحرب الباردة للقضاء على الاتحاد السوفياتي، في سبعينيات القرن الماضي حدثت انتعاشة كبرى للحركة الشيوعية واليسارية على المستوى العالمي، ففي فرنسا كاد الحزب الشيوعي بزعامة جورج مارشيه أن يصل للسلطة بالإنتخابات، وكذا فعل الحزب الشيوعي الإيطالي بقيادة أنريكو بيرلنغر، وانقلب اليسار العسكري على ديكتاتور البرتغال، وصعد سلفادور أيندي لزعامة تشيلي بالانتخابات، وشهدت نيكاراغوا ثورة مسلحة ماركسية، ووطأت قدم الدب السوفياتي تخوم جنوب أفريقية العنصرية: في تنزانيا وموزمبيق وناميبيا وغينيا بيساو، وصمد نظام فيدل كاسترو في كوبا، وجرى بدعم بكين وموسكو تمريغ الأنف الأميركي في الهند الصينية: فيتنام ولاوس وكمبوديا، وانتصرت الهند بسلاحها الروسي على باكستان حليفة الغرب في حرب العام 1971، وكانت الفوضى تدب في تركية، عبر منظمات اليسار المتطرفة.
كان هذا هو المشهد العالمي، فيما الاتحاد الأوروبي الحليف يقتصر على ست دول بينها خلافات، وكان العالم العربي يعاني من انحسار بلدان النفط المحافظة، والحقبة الناصرية تمثل تهديدا لها، فقد كان اليسار القريب من الشيوعية منتعشا، وكانت الحالة الغربية عموما في انحسار..
وضمن أدوات الحرب الباردة فكر الأميركيون بالظاهرة الإسلامية.. كان هناك نهوض ثقافي ودعوي للإسلاموية جرى تلمسه محليا ودوليا بصفته أفضل وسائل مواجهة الشيوعية واليسار القومي وما شابه.
فكر الغرب في أن الإسلام هو من أفضل المصدات بوجه الشيوعية الزاحفة، وكان في يقينه أن المجتمعات بالعودة إلى الله تتحصن أكثر ضد الشيوعية.. وجرى ذلك في وقت تحدث فيه الأمين العام للحزب الشيوعي السوفياتي ليونيد بريجنيف عن الوصول للمياه الدافئة في الخليج!.. بل وطرح مبادرة لأمن الخليج والمحيط الهندي، فنشأ القول الخليجي بأن أمن الخليج مسؤولية دوله..
لقد دق الخطر الأبواب في شدة.. فقد احتل السوفيات أفغانستان، فجرى استنفار الدول العربية المحافظة لتقاتل هذا الهجوم الذي يتهدد عقر ديارها.
في طهران كان النظام الامبراطوري صنيعة توافق الحلفاء في الحرب الثانية، وفي نفس إطار سايكس بيكو، وما جرى من رسم للخارطة العالمية، وفيما أعطي الشاه الأقاليم الإضافية كمكافأة له على موقفه في الحرب، فقد كان أهمها عربستان الغنية بالنفط مقابل ولائه للغرب..
وعندما حيل بين طموحات الشاه وحيازة البحرين، التي زعم تابعيتها له في فترة الفراغ البريطانية في الخليج، والتي وقعت لأسباب اقتصادية، فحزب العمال في بريطانيا كان أقرب لمهادنة السوفيات عن المحافظين، وكان يضغط للتخلص من الإرث الاستعماري، ورفض الأميركيون الحلول محل الانجليز جراء ما يعانوه في فيتنام، فصير إلى تكليف الشاه بدور شرطي الخليج، فسمح له بالسيطرة على الجزر الثلاث، طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى!
في هذا الوقت كان التنبه للظاهرة الإسلامية يمضي قدما في كل بلدان العالم الإسلامي، وقاد ذلك المرحوم أنور السادات بعد فشله بتكوين محور يضم كلا من القاهرة والرياض وطهران، ففي الطريق إلى قمة باندونغ الثانية عرض السادات على الملك فيصل أن يكون أمير المؤمنين فتمنع فيصل واكفهر وجه الشاه الذي لم يكن مستعدا للدخول في امبراطورية عثمانية جديدة.. عربيا!
في هذا المناخ شجع الملك حسين في الأردن (كمثال) الإخوان المسلمين، وشجعت الكويت الاتجاه الإسلامي بشقيه الإخواني والسلفي، وكذا فعل السادات بإطلاق الإخوان، والأمثلة كثيرة جدا.. ومنها أن الإخوان كانوا في فلسطين يحرمون العمليات الانتحارية ويعتبرونها قذفا للنفس إلى التهلكة.. فلم يكن هناك حماس!
كان الانتماء للإخوان كتنظيم لا يعرض صاحبه للسجن بإسرائيل، واستمر هذا ردحا طويلا من الزمن، حتى قرر التيار الإخواني تكوين بذور حماس الأولى، علما أن أول تنظيم إخواني أراد العمل بالكفاح المسلح، كان تحت اسم جبهة الإصلاح من الكويت!.. وذلك عبر شبان فلسطينيين أعرفهم واحدا واحدا، ومعظمهم من قرية يتما جاؤوا لفلسطين ووراءهم جمعية الإصلاح الاجتماعي في الكويت، وكانوا يؤمنون بالقتال ضد إسرائيل، على طريقة الجماعات اليسارية المعروفة، وطريقة حركة فتح الغالبة.
وفي تلك الفترة كان أسامة بن لادن مسؤولا في الاستخبارات السعودية!
فقد عيّن كمنسق لدعم الجهاد الأفغاني مع الأميركيين ليلتحم لاحقا جهده مع جهد الشيخ عبدالله عزام معلمه وقائد الجهاد المؤسس، والذي انطلق أيضا من الكويت واستقر في بيشاور.
في ذلك الوقت حصل المجاهدون صبغة الله مجددي وقلب الدين حكتيار وأسد جهنجير أحمد شاه مسعود، وبرهان الدين رباني ووو على صواريخ ستينغر التي كانت محظورة على الكويت والسعودية!
وإيران مهمة أيضا!.. فهي مجاورة للاتحاد السوفياتي مباشرة، والخميني كان مقيما في العراق، وحصل على دعم أميركي.. فقد كان العراق مندمجا مع الجهد السعودي والعربي في مناهضة الروس، ففي ذلك الوقت كانت هناك مشاكل لصدام حسين مع شيوعيي العراق الذين فض الائتلاف معهم، والذي كان عنوانه الدائم منحهم وزارة التخطيط ضمن الجبهة الوطنية الحاكمة، فقد أخذ  صدام منحى اليمين وإن احتفظ بعلاقاته الجيدة مع موسكو.
وقد ضغطت إيران الشاه عليه تطبيقا لاتفاقية الجزائر عام 1975 فقرر طرد الخميني من النجف محل إقامته، فحاول الخميني دخول الكويت فأعيد من  منفذ حدود العبدلي.. فعاد لبغداد وأمكن لصدام حسين بعلاقاته الفرنسية مع جاك شيراك أن يتدبر للخميني منفى مناسبا لا يحرجه، فرحل الخميني من بغداد إلى باريس، ومن هناك نقله الفرنسيون إلى منتجع دي لاشاتو الأنيق، حيث كان يطلق أشرطته المسجلة فتقوم المخابرات الفرنسية بالتعاون مع استخبارات صدام حسين بتوصيلها للشعب الإيراني الثائر على الشاه!..
لقد انقلب الغرب على الشاه لعد أسباب:
أولا كشف عن طموح امبراطوري غير مقبول كدولة عظمى توسعية وهذا مرفوض لبلد كإيران.
ثانيا: تزعم رفع أسعار النفط لما فوق الأربعين دولار للبرميل الواحد.
ثالثا: أطلق برنامجا نوويا يهدد بإطلاق سباق نووي في الشرق الأوسط كله لأن إيران إن امتلكت النووي فستعمل على امتلاكه السعودية ومصر وسورية وتركية والجزائر والمغرب وغيرها..
تقرر إزالة الشاه للتخلص من هذه الطموحات ولإغراق الاتحاد السوفياتي بالحالة الإسلامية على تخوم بلدانه الإسلامية..
وضغط الأميركيون على الشاه أن يرحل!..
وعند قبوله تشكيل حكومة المعتدل مهدي بازركان المؤقتة، والتي ستسمح بعودة الخميني، حمل الشاه كيس تراب من إيران للذكرى، وفي مطار مهراباد تطلع السفير الأميركي إلى ساعته معاتبا إياه: لقد تأخرت يا صاحب الجلالة.. كان الشاه تأخر عن موعده نصف ساعة!
وجاء الخميني.. رجل دين متواضع بسيط الهيئة، قريب للشعب، تخيل أن دولة الإمام الغائب قد قامت، فداعب بهذا خيالات شعب يتوق للعدل والمساواة..
وعبر ملابسات استضافة الشاه ثم تجميد الأرصدة، وتدخل اليسار الثوري بالسيطرة على السفارة الأميركية، وحاجة الثورة لعدو خارجي كي تستقر وتفرض نفسها، كان المشهد العام يشير لأن الغرب نقض الاتفاق مع الخميني، ونقض الخميني الاتفاق مع الغرب، فنشأت معادلة جديدة من إيران حتى المغرب، هي الظاهرة الإسلامية..
كان الغرب وسيظل عارفا بأن الإسلام نده الحضاري القاتل، لكن في فترة الثمانينات كان المسلمون من الضعف إلى حد لا يجعلهم محل تفكير عند الغرب..
كان الهم الأكبر آنذاك هو هزيمة تمدد الاتحاد السوفياتي وقهره، وفعلا بدأ الاتحاد السوفياتي بالانكفاء..
أطلق الغرب سباقا للتسلح لم يكن السوفيات المثخنون اقتصاديا قادرين عليه بعد توقيع معاهدة (سولت 2) بين العجوز ليونيد بريجنيف والديمقراطي الضعيف جيمي كارتر..
ثم جاء للبيت الأبيض يميني متعجرف هو رونالد ريغان، فأخذ سباق التسلح إلى مدى أفقر الاتحاد السوفياتي كليا عبر مبادرة الدفاع الاستراتيجي والتي عرفت شعبيا بـ (بحرب النجوم).. وشيئا فشيئا ومع الهزائم الاستنزافية في أفغانستان بدأ السوفيات بالترنح..
لم تكن أفغانستان قضية بالنسبة لهم، فقد كانت الماكنة العسكرية السوفياتية كفيلة بسحق المجاهدين.. لكن المسألة أخذت شكل الاستنزاف المادي والأخلاقي للسوفيات، فالشيوعية التي تتغنى بحق تقرير المصير للشعوب تكرر مشهد سقوط الرأسمالية الحرة الأميركية في وحل فيتنام، وكانت الحرب مكلفة على اقتصادهم، فترهلت الدولة لأبعد مدى، ولأسباب كثيرة ليس هنا مجالها..
ثم مات بريجنيف، فخلفه تشيرنينكو لمدة بسيطة، ثم جاء يوري أندروبوف لمدة قصيرة أيضا، وانكفأ الروس بعد هزيمة أفغانستان والمشاكل في بولندا عبر نقابة التضامن بزعامة ليخ فاليسا، وصعد الدفة عميل للغرب اسمه ميخائيل غورباتشوف فصار ما نعرفه جميعا من تفكك الاتحاد السوفياتي..
قبل ذلك تنبه الغرب لمخاطر الإسلام الناشئ، فقرر إهلاك إيران بالحرب مع العراق، فمهد المسلك الخميني التوسعي عبر نظرية تصدير الثورة للمخاوف أن تأخذ مداها، فكانت حرب العراق وإيران لاستنزاف الإقليم كله، واستخدمت للتغطية على جموح الملك فيصل في مسألة الجهاد والقدس، ولإطفاء التحول الاستراتيجي الذي حققه العرب بنصر أكتوبر 1973..
هنا بدأ الحذر الغربي من الظاهرة الإسلامية صارت تأخذ المنحى المعادي بعد أن كانت مجرد أداة، فقد تطور الجهاد الأفغاني لنموذج (إرهابي) تمثل بالقاعدة، وتطورت الخمينية لتكون منظمة (إرهابية) مماثلة باسم حزب الله، ومع سقوط الاتحاد السوفياتي كان لا بد من خلق عدو بديل..
أما الماكنة التي أسقطت الاتحاد السوفياتي فلم تكن منتدى أصدقاء هواة.. بل شبكة معقدة من أنظمة التسليح والاستخبارات والدراسات والأمن ونظم المعلومات والصناعات والإعلام..
لم يكن الحل أن يذهب هؤلاء إلى بيوتهم لأن الحرب قد انتهت.. فعندما تنجز مهمة لا بد من خلق أخرى!
هنا وفي الذروة المنتعشة بسقوط أوروبا الشرقية، جاء هجوم القاعدة على نيويورك!
كان هذا الهجوم هو الكنز أو الجائزة الكبرى للمؤسسة العسكرية، التي لا تريد أن تعود إلى بيتها فبدأت حرب باردة جديدة.. مسموح لها أن تسخن أحيانا، كما جرى في أفغانستان والعراق، أو تتسلى في الدراما المسماة “الحرب على الإرهاب”!
واكتشف الأميركيون بدفع من اللوبي اليهودي أن السلفية السعودية هي عدوهم الأول.. فلقد جاء 90% من مهاجمي القاعدة من السعودية!..
وقد طرح بعد 11 سبتمبر سؤال عبقري أميركي (لماذا يكرهوننا)؟.. وكان هذا السؤال كفيل بحل المعضلة مع العالم الإسلامي عبر التحول نحو موقف متوازن أكثر من الصراع العربي اليهودي، لأن الكراهية لأميركا في الواقع تعود إلى سؤال جدير بالبحث عن تبعية السياسات الأميركية لليهود..
لكن اليهود بعبقريتهم حرفوا السؤال عن مقاصده الأولى وأقنعوا الأميركيين بأن ابن باز وابن عثيمين وأسامة بن لادن هم مصدر واحد للعداء!.. وأن هناك إسلاما آخر أفضل وأكثر ليبرالية!
إنها مجموعة حزم من الإسلام الشيعي، والإسلام الإخواني والإسلام الصوفي الذي تعد تركية كنزه الزاخر والجاهز للتعاون مع الغرب وتقديم نموذج الاندماج الإسلامي المعتدل مع العالم الغربي.
وكان هناك نزوع بضغوط خليجية للتخلص من صدام حسين..
ولأسباب شتى وواضحة للمتابع كان صدام له عدو أكبر، وهو إيران الشيعية، والفارسية في آن معا..
وكان مكون المعارضة العرقية في معظمه شيعيا.. وإيران عدوة للعراق منذ فجر التاريخ، وتشيعها منذ قرون قليلة قلب المعادلة بنشوء متعاطفين مع طرحها المذهبي من العراق، لكن محرك إيران خصوصا بعد عقد حرب الثماني سنوات النفسية ما كان مذهبيا.. فالمذهب لم يحقق الرخاء والازدهار لإيران، بل أنتج نظاما ديكتاتوريا قاسيا على الصعيد الداخلي، فلا توجد في إيران حريات إلا في نطاق الإيمان بالخمينية ونظرية ولاية الفقيه، بل إن النظام الانتخابي نفسه يقوم على تنافس بين مكونات من يؤمنون بما قاله الخميني ولا شيء آخر..
دولة دينية خالصة لا تقبل أي رأي آخر فضلا عما تمارسه من قهر على الأقليات التي تشكل أكثر من نصف إيران حيث سيطرة العنصر الفارسي فقط، وغلبة للتمذهب الشيعي، في إغفال لما يشكله الكرد والبلوش وغيرهم من مكون سني مهم فضلا عن قهر الأقليات العرقية الأخرى وفي طليعتها العرب..الخ
لذلك كان المنحى الذي يأخذه صاحب القرار الإيراني قوميا فارسيا بغطاء مذهبي قشري خادع..
هنا طور المعارضون لصدام حسين من الشيعة، مفهوم المسيحية المتصهينة (اليمين المسيحي) في شأن الإسلام، واقتنع الأميركيون المسيطرون على الحزب الجمهوري أو ما يسمى اليمين المحافظ.. بأن الحل هو بدعم الإسلام الشيعي، فتلاقى الهدفان الأميركي والإيراني بقهر دولة طالبان في أفغانستان عند نفس المنحى..
لقد أفهم المعارضون العراقيون الأميركان، ولست في وارد ذكر أسماء، (مع أن من بينهم أصدقاء شرحوا لي ما قالوه بالضبط للأميركيين) أفهموهم أن العراق سيكون دولة شيعية ترتدي قبعة تكساس!.. وسيكون لها صدى باتجاهين اثنين، واحد باتجاه الإسلام السلفي، والآخر صوب الأصولية الخمينية نفسها.. وقالوا بأنه سينشأ بالعراق بعد صدام حسين، نظام شيعي ديمقراطي ليبرالي عالمي الهوى، وغير متعصب.. يجلس فيه المراجع بالنجف وكربلاء التي هي الأصل لا مدينة قم!.. بينما بغداد تقوم على بحر من التعاون الاقتصادي والنفعي مع الولايات المتحدة، وسيكون العراق ألمانيا جديدة وكوريا الجنوبية جديدة ويابان جديدة، وسيمد العراق الجديد يده لدعم تيار الإخوان المسلمين لأنه أكثر قربا من التفاهم المذهبي المسالم، ولأنه الوحيد الأفضل من السلفية المتوحشة!
وهكذا سُحب ملف العراق من وزارة الخارجية الأميركية، وهي وزارة تؤمن مع مجلس الأمن القومي بأن حكام العراق يجب أن يكونوا من السنة.. وقال اليهودي مساعد وزير الدفاع الأميركي بول ولفوويتز في تركية بعد إخفاقه بالتفاهم مع إردوغان على تكاليف الاستضافة التركية لقوات غزو العراق: سنصدر الديمقراطية للعالم العربي كله من العراق!
وعلى العكس من جيمس بيكر الذي طاف العالم العربي عاصمة عاصمة لإخراج صدام حسين من الكويت، لم يكلف كل من دونالد رامسفيلد أو كولن باول نفسه زيارة أي بلد عربي لإقناعه بغزو العراق!
كان الأميركيون تيقنوا أن العواصم العربية هي صفر على الشمال، وأن النفوذ الخطر الحقيقي هو أسامة بن لادن ومنظمة القاعدة.، وفرضت وزارة الدفاع المنحى الشيعي للعراق الجديد على العكس من رغبة الإنجليز والعواصم العربية، ووزارة الخارجية، ومجلس الأمن القومي، وسمح للمعارضة العراقية القادمة من إيران، بالتمدد في المدن المحررة بالغزو، فيما الأميركيون لا يريدون دخول المدن بل السيطرة على الأرض الفضاء..
كان ما يقوله المعارضون العراقيون المرتبطون بالأميركين..لا بأس.. فهذه هي البداية، لأن النظام الذي سينشأ الخلّص لإيران!
وإيران كدولة يمكن أن نلمس لها وبكل سهولة اتجاهان للتصرف، فهي نظام مستهدف عالميا، لأنه غير مريح للمعادلة الدولية، وهي نظام يخلط النزعة القومية بالتمذهب، وإلى حد لا يستوعب أن الفرسنة بعد الإسلام انتهت، وأنه لا قدرة لإيران الفارسية على التوسع، لأنه ما من سبب ولا رسالة ولا رسالة حضارية تملكها، لذلك ولتغطية العجز تلجأ للتمذهب كغطاء تضليل للبسطاء، الذين يجري تجييشهم على أسس المظلومية والشعور بالقهر..
الأمر هنا أضعف من مسألة الطموح الحضاري، فإيران ونتف من لونها المذهبي المجاور هي عمليا جزيرة وسط بحر هائل، وهو بحر لا أمل بتغيره وتبدله،  لكن ما جرى منذ مجيء الثورة الخمينية، وتداعيات حربها مع العراق، تمثل بجر سورية التي يحكمها نظام سمسرة ضيق القاعدة، بشعار يستخدم كغطاء كاذب، إلى حظيرة إيران وطموحاتها، فأصبح لإيران عبر هذا النظام وامتداده في لبنان وفي المنظمات الفلسطينية، دور في الصراع العربي الإسرائيلي، وهو دور ملتبس، وفي الحقيقة ورقة تحسين مركز تفاوضي، أو وهم تموضع عالمي تتطلع إليه قيادة إيران، فإيران لا علاقة لها بتحرير فلسطين، وليس لها قدرة أو شأن مباشر بقضيتها، فما يجري هو خطاب إعلامي متشدد يتطفل على القضية دون فعل يذكر، ودون قبول من أي طرف في معادلة القضية، وبما يجعلها ورقة مساومة، كخط دفاع عن استهداف، رأسه التربص بمشروعها النووي الذي لن يتم القبول به لأنه سيفتح سباقا نوويا للباقين من دول المنطقة، بينما العالم لا يريد قوة نووية أخرى غير إسرائيل.
والمجتمع الدولي غير قادر أو مستعد لقبول إيران ضمن معادلة القضية الفلسطينية لعدة أسباب أولها  أن إيران لا تملك الأهلية لهذا فليس من مبرر لها لأن تكون على طاولة القضية، فلا يمكن أن يكون مشروعها إلا عدائيا للجوار.
من هنا جاء التمدد الإيراني موهوما بما جرى منذ غزو الأميركيين للعراق، فقد حكمه عملاؤها بطريق التسلل عبر المشروع الأميركي عام 2003، وأيضا هذا وهم، أو حال مؤقت، لأن العراق عربي ونقيض لإيران، وهذا موقعه ودوره ومبرر وجوده الذي لا بد وأن يعود إليه، مع هبوط الحالة المذهبية المستنفرة والمؤقتة، والتي لا تشكل قيمة بإزاء البعد القومي، فالعراق وإن كان مكون مهم منه متحد المنحى مع إيران، فهناك ما هو أهم، وأقصد البعد القومي والتاريخي العراقي المتضارب مع الجوار الإيراني والحذر منه، إن لم يكن النقيض والعدائي له.
وقد كان الامتداد الإيراني في سورية ذا أثر حاسم على تقرير مستقبل العراق، وهو امتداد قام على تحالف مع نظام الأسد الأب في تناقضه مع غريمه البعثي في العراق، فوقفت سورية مع طهران ضد صدام حسين، فكان حلف وثيق لا ينسى، وساهم بوضع قدم إيرانية في لبنان، وشيئا فشيئا صارت سورية بمثابة درة تاج إيراني لا غنى عنها.
وحدث التمدد الإيراني في العراق وسط حال سكون سعودية غير مشاكسة، ومالت للمنحى الاحتجاجي السلبي والصامت، حتى إذا تحركت السعودية عام 2009 ودعمت بكل قوة خطا مناهضا لإيران في العراق عبر الانتخابات، حيث فازت قائمة أياد علاوي بـ 192 مقعدا مقابل 189 مقعدا لنوري المالكي، انفعلت إيران وتواطأت مع سورية لإفشال هذا الفوز، وبرضى الأميركيين الذين كانوا يريدون انسحابا مشرفا من العراق.
يومها أخذ خادم الحرمين الراحل الملك عبدالله موثقا من بشار الأسد بأن يشكل الحكومة أياد علاوي.. فغدر بشار بالملك وانحاز لصالح الفيتو الإيراني على علاوي ورجّحه، وهو ما قبله الأميركيون لأسبابهم، حتى إذا قامت الثورة السورية شعر النظام الإيراني بأن ذلك يمثّل مسمارا أساسيا في نعشه، وأن خسارة ساحة كسورية ستؤدي لخسارة غزة ولبنان ومن ثم العراق.
وبما أن ذلك لم يحدث لأسباب التشبث الروسي ببشار الأسد، تصرفت إيران وكأن الساحة صارت خالية لها تماما.. ولهذا رأيناها تصل إلى العمق العميق المستفز للسعودية، ألا وهو اليمن، ومن دون أن تتوقع ردة الفعل التي حصلت، والتي تنبئ بالمزيد بعدها، سواء سورية أو العراق وغيرهما..
هذا يفسر تماما، هذا الانفعال الشديد الذي يستشعره المراقب من إيران.
والحقيقة أنه مع إيران حق بالانفعال والغضب.. لقد انتهى شهر عسل التدخل السهل دون أي رد فعل مقابل!