كتاب سبر

علامات الانهيار المخفية في الجذور النجفية لنهاية ولاية الفقيه الايرانية

أول ما يدرك أوان ساعته هو النظام الشمولي نفسه، فيغرق في تخبط عميق، وتصدر عنه تصرفات غلافها الأعم هو المكابرة، في والحالة التي نعيشها في المنطقة حاليا لا أصدق على هذا مثلا من النظام الإيراني.
ففي حال إيران تم الخروج على منطق معتاد بنظرية جديدة لا تصح ولا تستقيم حتى من الناحجية الإيمانية.. ليضاف ذلك على نفس صفات الشمولية العسكرية، ولذلك فإننا نشهد ربع الساعة الأخير قبل سقوط نظام إيران.. فما يحدث من مشاغبات إيرانية في الخارج هي مجرد محاولات يائيسة لتأجيل هذا الانهيار، وهذا ليس رأيا، وليس مزاجا يكره إيران أو لا يريد لها الخير، بل قواعد سياسية راسخة في علم التاريخ والأنظمة المستبدة يشبه تماما معادلات الكيمياء مثل: H2+O= H2O.
ويصح في هذا المقام أن أورد حكاية جرت مع المرحوم عبدالمجيد الخوئي الذي أجريت معه عام 1996 حديثا صحافيا مطولا تشير عناصره لهذا المأزق الإيراني.. وعبدالمجيد هو ابن آية الله العظمى آية الله الخوئي شريك الإمام الخميني رحمه الله في النجف قبل مغادرتها، حيث كان الإمام الخوئي مرجع التقليد الأكبر في النجف المفترض أنها الحوزة العلمية الأولى من سواها وكان الرجل يحمل أسبابا عميقة ضد ولاية الفقيه.
وولاية الفقيه ماذا تعني؟
تعني أنك لن تنتظر كمؤمن بالإمام الغائب عودته أو خروجه ليقيم دولة العدل الغائبة.. فتجهز له الأرضية لتلك الدولة.
وهذا ماذا يستدعي؟
أنك عندما (تحكم) باسم الحجة الغائب يتعين عليك أن تحكم وفق مبدأ سيادته الكلية على الدين والعباد بوصفك نائبا له ومفوضا منه، ما يفيد أنك الحاكم الذي لا تنزل كلمته الأرض ولا تجوز محاسبته وأن الدولة كلها تحته يسيرها كيفما يشاء بدعوى أنه بلغ مرتبة العلم القصوى!
وهذا بالمجمل.. أي النظرة العامة والأثر الواقعي يشبه فهم وسلوك اي قائد شمولي من هتلر إلى ستالين إلى صدام أو ما أو حتى الزعيم الكوري الشمالي.. الأحمق!.. فالقائد يقرر والكل تطيع.. فتصبح له الكاريزما المقدسة (في حال إيران الغطاء ديني إلهي!) فلا أحد يقف بوجهه فتتجه الدولة إلى الشمولية المطلقة، وهي عادة ذات شعار ضخم.. كبير.. كما في مقولات: تصدير الثورة..محاربة الاستكبار العالمي.. نبش قبري أبو بكر وعمر!.. تدمير إسرائيل.. ثم السمن والعسل مع الإمام، فيتم تفصيل دستور يطابق هذه الأهداف، وتتلون الدولة كلها بإعلام واحد ورأي واحد واقتصاد تحت السيطرة وأمن متشدد وشعور متحفز للحرب والمواجهة.
كان المرجع الخوئي يعارض كل هذا.. لم يكن قابلا بمبدأ الولي الفقيه ولذلك يرى الكثيرون وأنا منهم، أن الخميني عندما استدرج صدام حسين للحرب كان يقصد أولا شطب معارضته الحوزوية، والسيطرة على النجف، فليس من معنى أو قيمة لنظرية تهيمن على التشيع من دون حوزة تقبل بها في النجف وكربلاء، فإذا ما أضيف لذلك ما هو منطقي من وضعية التصادم الحضاري بين العراق كبلد عربي مع بلاد فارس وهو اصطدام أبدي لا ينتهي أيا كان الدين والمذهب، رأينا الذي رأيناه من حرب ضروس استمرت ثماني سنوات، واتخذت ما اتخذت من الأشكال من دون أن يتغير عمقها العميق في نفس الولي الفقيه الإيراني، وهو أن هناك مرجعا ضخما يعارض صدام في ضميره، ويتمنى زواله، لكنه لا يريد استبداله بالخميني وولايته!.. فظل هذا التآكل الشيعي المرجعي الداخلي، مهيمنا على روح الدولة الإيرانية تجاه العراق، ليكون الحل الأمثل هو شطبه كليا من الوجود فتزول (أنتافه) الكردية والسنية، ويتم الاستحواذ على نجفه وكربلائه!
 
المهم أن الخوئي مات في نهاية المطاف، وكان أن اختار ابنه عبدالمجيد وراثة أفكاره مستعينا بالتقدير الكبير لدى الطائفة لموروث الخوئي الأب، فخرج من العراق، وكان مدهشا لي أنه لم يذهب إلى إيران بل إلى لندن، متنقلا بين بيروت وعمان، حتى تلقيت عرضا منه بمراسلة مجلة تصدر في بيروت.
ولعل هذه من المفارقات في حياتي.. فعندما راسلت مجلة (الفرسان) التابعة لرفعت الأسد ظننت أنها تخدم في النهاية النظام السوري لأفاجأ بالعكس!.. كنت أدخل مكاتب حركة فتح في الكويت فإذا بمجلة الفرسان مكدسة على السلام، في حين أن الحرب مشتعلة بين حافظ الأسد وياسر عرفات!.. فأصبت بالدهشة.. كنت صغيرا بعد على فهم مثل هذه التعقيدات العربية، فسألتهم: ما هذه!؟.. قالوا نحن الذين نتولى توزيعها لأنها ضد النظام السوري المجرم!
وهكذا تبين لي مع الوقت في حال مجلة السيد عبد المجيد الخوئي أنها ضد إيران.. فنشأت علاقة (مراسل يتلقى الأجر) مع الرجل وطاقمه ففهمت منها قدر التعارض العميق بين ولاية الفقيه ومعارضيها المرموقين داخل الطائفة، وتبينت بفحص وتدقيق ومتابعة مدى الهوة بين التشيعين العربي والفارسي، وأصبت بانزعاج شديد من مقدار الاحتجاج الذي ورد للصحيفة.. وإن كان لا يقدر على المساس بالخوئي فاستسهل اتهامي أنا بإيقاع الفتنة بين الناس!
ودارت الأيام!.
وعزت أميركا العراق لتحرره من صدام، وجاء السيد عبدالمجيد إلى العراق، فالتقيبت به مرتين في الكويت.. وفي النجف، وكنت معارضا تسرعه بالذهاب إلى العراق وقلت له هذا في الكويت، لكنه قال إن هناك عملا كبيرا ينتظره في النجف الذي ستحتله إيران دون شك!
وشخصيا كنت أحمل قبل الحرب بطاقة دخول حر للعراق، موقعة من الجنرال جي غارنر رئيس الإدارة المدنية الأميركية للعراق الذي خلفه بول بريمر، وكانت هذه (بطاقات البنتاغون) نوعان، الأول يختار مرافقة الوحدات العسكرية الأميركية فيظل معها ولا يغادرها والثاني يختار التحرك على مسؤوليته، ولطبيعتي المتمردة اخترت النوع الثاني فكنت أتنقل كيفما أشاء في العراق، وعندما أكون في المناطق الأميركية والبريطانية أقول بأني من الكويت.. فإذا ما وجدت نفسي وسط الحرس الجمهوري وكتائب صدام أكون أردنيا أصله فلسطيني فأحظى بالرعاية منهم!.. حتى كان اللقاء الأخير في النجف مع الخوئي.
كان الرجل يتمشى في صحن ضريح ومسجد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وحوله قليل حراسة عندما حذرته برفق المحب.. سيد.. هنا خطر شديد.. تبسم رحمه الله وهو يلتقط منديلا من الأرض بقصد النظافة ويضعه في جيبه ثم قال: الأعمار بيد الله.. وإذ كنت أتذكر كل لحظة حتى توديعه والعودة إلى الجنوب، فإنني لا أنسى لمسة يده الناعمة..وربته على كتفي وبسمة طيبة مع القول:”هم بعد أنتم ديروا بالكم على نفسكم ترى الموت في العراق الآن بكل مكان”!
كنا نعود إلى مناطق قريبة من الكويت نستأجر فيها المبيت داخل فضاء مسور به حمام وخدمة طعام قليل لكن بميزة حماية السيارات والمعدات من اللصوص، وفي ظرف إرهاق وتعب وسفر وتنقل وخطر موت كهذا، لا يجد المرء ألذ من السقوط في النوم السريع فما أن تناولت وجبة سريعة حتى أغمضت عيني في أرضي.
دار اليوم فإذا بالنبأ الفاجعة يرد.. لقد تم اغتيال عبد المجيد الخوئي.
وبغض النظر عن كل التفاصيل، والمحاكمة التي لم تكتمل، وعجز حكومة أياد علاوي عن إنجاز ذلك لحاجات تتصل بالعملية السياسية في العراق، فإن لدي يقين بمن هو الذي قتل الرجل، أو يقف وراء قتله، أو يرغب بزواله، لأن ما يجري في العراق بما نراه من نهايات ينبئ عمن يقف وراء البدايات، فليس الأمر مذهبيا ولا شأن له بعملية (التطئيف) الجارية،بل هي حشرجات نهاية دولة ولاية الفقيه واختفائها من الساحة بعد كل ما جرته من فشل ذريع، لهذا أذكر يومها أني وسط حزني عليه، قلبت يدي لأتذكر اللمسة الأخيرة منه مودعا.. ويقنت أن من يحارب فكرا.. من المحال أن يبقى.