كتاب سبر

الشعب يريد طرد السفير

“لا تصالح، على الدم حتى بدم، لا تصالح، ولو قيل رأس برأسٍ، أكلُّ الرؤوس سواءٌ؟ أقلب الغريب كقلب أخيك؟ أعيناه عينا أخيك؟ وهل تتساوى يدٌ.. سيفها كان لك بيدٍ سيفها أثْكَلك؟” منذ أكثر من ثلاثين عاماً، يردد الشعب المصري كلمات الشاعر الراحل أمل دنقل، يرفضون السلام مع إسرائيل، يرفضون كامب ديفيد، يرفضون وجود سفارة للعدو الصهيوني، وعلم يرفرف فوق نيل القاهرة.

“لا تصالح” ترددها الأجيال خلف الأجيال، تنطقها الألسنة في وجه النظام، تصرخ بها، وستة جنود مصريين يسقطون على الحدود بيد الغدر “هل يصير دمي -بين عينيك- ماءً؟ ، أتنسى ردائي الملطَّخَ بالدماء، تلبس -فوق دمائي- ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب؟ إنها الحربُ، قد تثقل القلبَ، لكن خلفك عار العرب، لا تصالحْ، ولا تتوخَّ الهرب”، يصعد البطل المصري الشعبي “أحمد الشحات” إلى الدور 22، يتسلق البناية التي بها السفارة، يرفع يده بعلامة النصر وهو ينزع العلم الإسرائيلي، ويزرع مكانه العلم المصري، يرفع يده بعلامة النصر وهو يطهر سماء القاهرة، من العلم الصهيوني، يحرقه مع زملائه المتظاهرين، يصرون على الاعتصام حتى يتم طرد السفير، أيام متتالية من الاعتصام، ومليونية لطرد السفير، وكلمات أمل دنقل تتردد “سيقولون: جئناك كي تحقن الدم.. جئناك كن -يا أمير- الحكم ، سيقولون:  ها نحن أبناء عم، قل لهم: إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك ، واغرس السيفَ في جبهة الصحراء، إلى أن يجيب العدم”. 

منذ توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل عام 1979 التى أتاحت تبادل السفراء وإقامة علاقات كاملة قبل تحرير كامل الأراضى المصرية من العدو الإسرائيلى، لم تتوقف دعوات المقاطعة لإسرائيل، وطرد السفير المفروض على الشعب المصرى. وفى كل مناسبة وغير مناسبة تخرج المظاهرات ضد إسرائيل تطالب بطرد السفير الإسرائيلى من مصر. ولم يقتنع الرئيس الراحل أنور السادات بمطالب الشعب والقوى السياسية التى رفضت السلام المفروض عليها ووجود سفارة وسفير للكيان الصهيونى فى القاهرة. واستمر فى سياساته التطبيعية مع إسرائيل رغم إصرار الأخيرة على اغتصاب الأراضى العربية واحتلالها.

وفى طيات تلك المعاهدة استسلام لا سلام. واستطاعت إسرائيل أن تحصل على مكاسب كثيرة من السادات عبر تلك المعاهدة، ورضخ لهم السادات من أجل أن ينادى عليه بـ «رجل السلام». وعندما هاجم تلك المعاهدة أعضاء فى مجلس الشعب لم يتحمل السادات ذلك الهجوم وأصدر قرارا بحل المجلس، وهو مجلس 1976 الذى كان يمثل أنزه انتخابات أجريت فى مصر.

واعتبر السادات كل معارضى معاهدة السلام مع إسرائيل معارضين له شخصيا. ليتأزم موقفه فى سبتمبر 1981 ويعتقل قائمة من سياسيين وكتاب ورجال دين بلغ عددهم 1536 يمثلون جميع الاتجاهات السياسية المتعارضة ضمن مجموعة قرارات اتخذها ضد الحريات وضد المعارضة.

وبرر السادات الاعتقالات بعدم إعطاء إسرائيل ذريعة للتنصل من تنفيذ تعهداتها بالانسحاب من سيناء، وبعد 33 يوما من إصدار السادات ذلك القرار جرى اغتياله أمام العالم فى احتفالات ذكرى حرب أكتوبر. ويرث مبارك تركة السادات، ويسير على دربه فى استمرار العلاقات مع إسرائيل.

وتستمر المظاهرات، أى مظاهرات، فى رفع شعارها بطرد السفير الصهيونى من مصر، ويزداد الغضب الشعبى فى مصر ضد إسرائيل مع الاجتياح الإسرائيلى للبنان عام 1982، واقترافها مجزرة صبرا وشاتيلا فى لبنان ضد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، فيضطر حسنى مبارك إلى سحب السفير من إسرائيل (كان وقتها سعد مرتضى). وتكرر الموقف ذاته فى عام 2000 (21 نوفمبر) حيث حدث تجاوب من النظام المصرى مع المطلب الشعبى بسحب السفير من إسرائيل مرة ثانية مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية فى سبتمبر 2000 ووصول شارون بعد ذلك إلى رئاسة الحكومة وتوسعه فى إجراءات القمع تجاه الشعب الفلسطينى.لكن مبارك ونظامه وحكومته رفضوا بإصرار المطالب الشعبية بقطع العلاقات مع إسرائيل أو طرد السفير الإسرائيلى من القاهرة.

ولم تتأثر العلاقات بين مصر وإسرائيل فى عهد مبارك بحوادث إطلاق النار على الجنود المصريين على الحدود بين البلدين أو حتى مع عرض التليفزيون الإسرائيلى فيلم «روح شاكيد» الذى تناول قتل إسرائىل للأسرى المصريين بدم بارد فى أثناء حرب يونيو 1967، لدرجة أن أحمد أبو الغيط وزير خارجية حسنى مبارك اعتبر ذلك  لا يبرر قطع العلاقات مع إسرائيل.بل إن الرئيس المخلوع حسنى مبارك عمل على تقوية علاقاته الشخصية بقيادات إسرائيل الملطخة أيديهم بدماء المصريين وإخواننا الفلسطينيين.

فأصبحوا جميعا أصدقاء له من شارون إلى بن إليعازر وصولا إلى نتنياهو وتسيبى ليفنى التى اتخذت قرارها بالاعتداء على غزة فى أواخر عام 2008 وأوائل عام 2009 وارتكاب مجازر وجرائم حرب فى حق الشعب الفلسطينى من القاهرة بعد لقائها مبارك! وجرى تسريع العلاقات التطبيعية بين البلدين، ولم يعد الأمر فى مجال الزراعة فقط التى تولاها يوسف والى وإنما تعدى الأمر إلى الصناعة والتجارة فكانت اتفاقية «الكويز».

وكان الأمر الجلل هو اتفاقية الغاز، التى جعلها مبارك ملحقا إضافيا فى اتفاقية السلام. وهو ما يعد خيانة كبرى فى حق الشعب المصرى.. يحرمه من الغاز ليهديه إلى إسرائيل.

فكان مبارك يعتبر إسرائيل حمايته ومندوبته لدى أمريكا ليظل فى الحكم ويورثه من بعده لابنه.لكن الله سلّم، وقامت الثورة التى ترى أن العلاقات مع إسرائيل لا بد من إعادة ترتيبها مرة أخرى. ولا يمكن أن تقوم إسرائيل بالاعتداء على الحدود وإطلاق النار على الجنود ليسقطوا شهداء والشعب يسكت.. فـمصر الثورة غير مصر مبارك.

الشعب يريد تعديل معاهدة السلام، أو حتى إلغاؤها ، لا يهم، الشعب يريد طرد السفير الصهيوني ، الشعب يريد القصاص للجنود الذين قتلوا على الحدود، وأقول لكل مسئول يمد يده بالسلام إلى إسرائيل، ما قاله أمل دنقل للسادات منذ اكثر من ثلاثين عاما ” كيف تنظر في يد من صافحوك.. فلا تبصر الدم.. في كل كف؟ إن سهمًا أتاني من الخلف.. سوف يجيئك من ألف خلف ، فالدم -الآن- صار وسامًا وشارة ، لا تصالح، ولو توَّجوك بتاج الإمارة “.