فن وثقافة

دراسة نقدية
عبدالله المبارك في شعر وفكر سعاد الصباح

كنت أعدّ لأبحث عن “عبدالله المبارك” في شعر سعاد الصباح، فوجدت حضوره في نفسها وحياتها أوسع بكثير من مساحة الشعر، فهو مرسوم على كل تفاصيلها وكل تاريخها..
 إذا كلـّمتها عن السياسة قالت: عبدالله المبارك..
 إذا حدّثتها عن الحب.. قالت: عبدالله المبارك..
 إذا فتحت لها  أبواب العروبة.. همست: عبدالله المبارك، وإن ذكرت لها التضحية سمعتها تقول: عبدالله المبارك، ولو أشرت إلى الحكمة والحكم وجهتك إلى “عبدالله المبارك”…
 
تسألها: ماذا عن شعرك؟ تقول: أخذت افكاري من بومبارك
تبادرها: وماذا عن شعورك؟ تجيب: ازدهر ربيعه بمطر عبدالله المبارك.
ماذا عن دراستك؟ تؤكد: الفضل فيها يعود إلى بومبارك
صداقاتك؟
رحلاتك؟
اولادك؟
انت؟
هم؟
كل ذلك عبدالله المبارك.
فكأن سعاد كانت كالقمر الذي يدور حول الأرض.
هي القمر بجلائه وتجلياته وجماله، وهو الأرض بكل عطاءاتها وحنانها..
بينهما حالة تجاذب وانجذاب أبدية، لا يستطيع القمر الخروج من مدار الأرض، ولن تكون الأرض أرضاً جميلة بلا قمر…
 
لذلك لم يكن عبدالله المبارك منحصرا محدودا في الشعر، بل في الفكر كله كمنهج حياة وكإيمان، وكامتنان…
 
ومن المثير للعجب أن ذاك الرجل قرر اعتزال الحياة السياسية وترك الإعلام، في الوقت الذي تغلغل في فكر الشاعرة الأديبة فحضر إلى الحياة الاجتماعية والفكرية والشعرية والسياسية من خلالها كل هذا الحضور..
وبعد حياة حافلة بالتنقلات والتحولات.. جاء دور الوفاء بعد الرحيل..
الوفاء.. الحميم، خصلة المرأة العربية الأصيلة.
وقد اشتهرت نساء شاعرات بالرثاء.. حتى قال مصطفي صادق الرافعي في كتابه “تاريخ الأدب”  (ان الرثاء هو عمود شعر النساء) ، فكان خلود رثاء الأخوة في قصائد الخنساء ومراثيها في شقيقها صخر:
أعيني جودا ولاتجمدا
الا تبكيان لصخر الندى
الا تبكيان الجميل الجريء
الا تبكيان الفتى السيدا
            
وفي رثاء الزوج اشتهرت أبيات جليلة بنت مرة في زوجها القتيل كليب:
 
يا قتيلا قوض الدهر به … سقف بيتي جميعا من عل
….
خصني قتل كليب بلظى من..  ورائي ولظى من أسفلي
ليس من يبكي ليومين كمن  .. إنما يبكي ليوم ينجلي
 
*******
 
لكن نتاج سعاد الصباح الشعري والإنساني والفكري أخذ شكل الوفاء أكثر من شكل الرثاء، فكانت دوما تخاطبه كواقع وكوجود وكحضور.. شاخص أمامها بهيئته وبتاريخه، رغم أنه خطاب عاطفي واع ومدرك لحجم الغياب في الوقت ذاته.. وليس من قبيل الاحتجاج على الفقد.. فلم يتضح من كل ماكتبت أنها ترفض هذا الغياب او تحتج على المقادير، بل إنها تقبل ماحدث بنفس راضية.. وفي الوقت ذاته تعيد تشكيل الحضور بشكل آخر، فانجازاتها هي امتداد لحضوره، وأولادها هم استمرار لهيبته وذكرياتها هي اعادة تشكيل واقع فات لواقع سيأتي..
 
هكذا تعيد سعاد الصباح أحداث الوفاء التي اشتهرت بها المرأة العربية.. فتقفز إلى الذاكرة بعض ما ذكره ابن الجوزي في كتابه أخبار النساء، ومن ذلك قول الاصمعي: رأيت بالبادية أعرابية لاتتكلم، فقلت: أخرساء هي؟ فقيل لي: لا، ولكن زوجها معجبا بنغمتها فتوفي، فآلت ألا تتكلم بعده أبدا..
 
 
 
وقول الأصمعي: خرج سليمان بن عبدالملك ومعه سليمان بن المهلب ابن ابي صفره من دمشق متنزهين فمرا بالجبانة، فإذا امرأة جالسة على قبر تبكي فرفعت البرقع عن وجهها فكأنها غمامةٌ جلت شمسا، فوقفنا متعجبين ننظر اليها فقال لها ابن المهلب: يا أمة الله هل لك في امير المؤمنين بعلاً؟ فنظرت إليهما ثم نظرت إلى القبر، وقالت:
فإن تسألاني عن هواي فإنه    بملحود هذا القبر يافتيان
وإني لأستحييه والترب بيننا    كما كنت استحييه وهو يراني
 
 
قال الاصمعي: فانصرفنا ونحن متعجبين!
والعجب الأكثر هو في صنيع قلب سعاد الصباح.. وانهماراته الصيفية والشتائية ببوح حار للزوج والحبيب والصديق الفقيد..
لأن التلاقي بين (سعاد وعبدالله) كان تلاقي عواطف وتلاقح افكار انبت هذه العلاقة النادرة التي تثير الاعجاب والفخر…
وكم هو رائع ان تغير سعاد الصباح الصورة النمطية في الشعر التي تقوم جماليات شعر الغزل فيها على التغزل بحبيب ليس هو الزوج.. لتثبت أن الحب للزوج والتغزل به وإكباره في النفس والقلب يعطي بعدا أكثر جمالا وجلالا ونبلا للكلمات وهي تسميه (القديس الذي علمني أبجدية الحب من الألف إلى الياء).. تنشد:
 
رسمني كقوس قزح
بين الأرض والسماء
وعلمني لغة الشجر
ولغة المطر
ولغة البحر الزرقاء
…              
 
في عام 1960 ارتبطت الشيخة الصغيرة بالشيخ الكبير.
مثل كل مفاجآت الحب.. قرأ اسمها من بين أسماء الطالبات الفائقات.. فاختارها قلبه على الفور، وقبلت هي فورا بهذا الفارس الذي جاء يخطفها من حضن الأب.. إلى أحضانه كزوج وحبيب ومعلم وأب وصديق.
وقد تعددت أشكال الخطاب الشعري والنثري لسعاد الصباح تجاه عبدالله المبارك
فهو مرة “المعلم” الذي يأخذ قداسة المعلمين الحكماء
وهو مرة “الصديق” الذي يسمع ويستوعب ويناقش
وهو أحيانا الأب الذي يداعب طفلته ويعرف جنون أعاصيرها
وهو
وهو
وهو
ماأكثره وما أوسعه وما أرحبه في قلبها، وفي ذاكرتها، وفي مساحة الجغرافيا والتاريخ عندها
 
قالت له شعرا:
 
مر تجدني.. أجعل الليل
إذا ما شئت فجرا
 
والخريف الجهم نيسانا
وألوانا وبشرى
ياحبيبي لا تسل مالون حبي.. أنت أدرى!
 
 
وفي سؤال صحفي طرح عليها عمن تقدموا لها يطلبوا يدها للزواج بعد وفاة عبدالله المبارك، أجابت هذه الإجابة الحاسمة والمذهلة:
( لا أحد يجرؤ على ذلك)
 
 
تقول نثرا:
حين تزوجت ابن عمي وحبيبي….. ومعلمي الشيخ عبدالله المبارك الصباح كنت في الأول ثانوي، وجدت رجلا مثاليا لايمكنني أن أصفه، وقف الى جانبي منذ اليوم الأول، وتنازل عن امتيازاته التاريخية ومعروف انه رأس العائلة وعمها جميعا. دفعني إلى ملاعب الشمس كي أغرف من الثقافة والعلم ولكي أزداد علما وفكرا،
هذا الرجل العظيم سار معي كل هذا الطريق الطويل، وكان فخوراً أنني أتعلم..
كان هو سندي والكتف الرحيم الذي ارتاح عليه عندما تعصف بي الرياح.
وتضيف: وإذا كنت حققت شيئا في حياتي العملية والأدبية..
فالفضل الاول يعود إلى عبدالله المبارك
 
وكانت وصيته لأولاده أن يستثمروا أنفسهم بالعلم والفكر وخدمة بلدهم.
 
تقول..
 
(كان يقول: إن النفط لوث بعض أفكارنا..
وكثير من قصائدي وكتاباتي هي من وحي أفكاره وتعليقاته)
 
سعاد الصباح هي حالة انبهار قصوى بالزوج، وقناعة تامة به كشريك حياة، ليس في الأمر ادّعاءا إعلاميا، ولا بهرجة أدبية.. فهذا الإصرار في القول، والاستمرار في التعبير والشعور الجارف بأشكاله وإشكالاته، يثبت ويؤكد ماتذهب إليه.. ويحشد كل أحاسيسها لكي تكون الكلمات معبأة بها.. صدقا لا حد لنقائه وصفائه.
 
 
أما قصيدتها (آخر السيوف) التي تكاد تكون رثائية جيل، فهي علامة فارقة في مسيرتها الشعرية من حيث إحساسها ودفقها والسبك والحبك واللفظ والصور المتتابعة المتزاحمة التي تحكي مرارة فـَـقد امرأة شامخة لجبلها الذي جبلت عليه.
..
في القصيدة تداخلت أحاسيس الوطن بأحاسيس الحبيب .. وشجون الأمّة بشؤون الزوجة، فبلغت غاية الإحساس وأقصى الوجع وذروة الألم وسنام الحزن .. ومادلالة آخر السيوف إلا ماتعنيه آخر جولات الفرسان في الحرب، فالسيف الأخير لا يكون بعده إلا إسدال الستارة على كل الجروح..
السيف الأخير سيلتصق باليد التي تحمله معجونا بالدم.. والإصرار ..
 
ها أنت ترجع مثل سيف متعب
لتنام في قلب الكويت أخيرا
يا أيها النسر المضرج بالأسى
كم كنت في الزمن الرديء صبورا
كسرتك أنباء الكويت ومن ر أى
جبلا بكل شموخه مقهورا
صعب على الأحرار أن يستسلموا
قدر الكبير بأن يظل كبيرا
 
كانت تلك القصيدة الأجمل والأوجع التي كتبتها عقب يوم الفقد الذي لا ينسى: يوم 15 يونيو 1991
 
ومثلما أعادت سيرة الشوق.. أعادت كتابة مسيرة الرجولة والبطولة عبر كتابها (صقر الخليج) الذي تناول رحلة رفيق الدرب ومسؤولياته الكبيرة وتضحياته العظيمة..
 
واستمرارا للوفاء أعدّت كتابها الأهم عن الشيخ مبارك الكبير مؤسس الكويت الحديثة… وكان إلى الإهداء كما نتوقع تماما:
(إلى أسرتي الصغيرة..
إلى روح زوجي الشيخ عبدالله المبارك
إلى أولادي محمد ومبارك وأمنية والشيماء..
إلى أحفادي وحفيداتي
وإلى أسرتي الكبيرة أهل الكويت..
صفحات تحكي عظمة قائد وشموخ شعب..)
وكان الكتاب القيّم الذي يحكي التاريخ وسيحكيه التاريخ.
أما الصفحات الأهم والأروع والأمتع فتلك التي حواها كتابها الأميز والأشفّ: (رسائل من الزمن الجميل) في نصوص صدرت للمرة الأولى عام 2006
تلك الرسائل الشعرية ذات النمط الروائي والمطر العاطفي.. بصياغة البوح الحميم.. بروح أديبة عاشقة، كأنها حمامة ترفرف فوق غمامة
الحمامة سعاد.. والغمامة عبدالله
تفتتح الكتاب بالانهمار الحار:
 
(يوم طلبني الشيخ عبدالله المبارك للزواج عام 1959 كان الطلب بمثابة زلزال قوي هز أعماقي، لم أصح منه إلا بعد وقت طويل..
كان بالنسبة لصبية صغيرة لاتزال تلبس المريول المدرسي بطلا من أبطال الروايات التي كنت أقرأها..
وفي مرحلة المراهقة ماأكثر الأبطال الذين حلمنا بهم، وتمنينا أن يخطفونا ذات يوم على حصان أبيض، ويغمرونا بحبهم وحنانهم وكرمهم وفروسيتهم.
وعندما طرق الباب.. عرفت أن روايات الطفولة صارت واقعا)
 
تكمل:
(لم يخبئني عبدالله المبارك خلف الستائر، ولم يحبسني في قارورة..
وإنما أدخلني إلى مجلسه، وشجعني على المشاركة في كل الحوارات…
ومن أهم أفضال عبدالله المبارك علي أنه صنعني فكريا وثقافيا عندما فتح أمامي الضوء الأخضر لأواصل تعليمي….)
 
 
تخلص إلى القول: قليلون هم الرجال الذين يضعون نساءهم على أكتافهم.. ويصعدون بهن إلى قمة الجبل في هذا الوطن العربي. وأشهد أن عبدالله المبارك حملني على أهدابه وعلى أكتافه حتى أوصلني وأولادي إلى شاطيء السلامة.
علمها القومية منذ اللحظة التي رفع فيها شعار: الكويت بلاد العرب.. فمنح حق الإقامة لكل عربي على أرض الكويت.
وعلمها الحب منذ أن رعاها بحنان قلبه.
وعلمها الحرية منذ أن منحها حق المشاركة.. فهي أول امرأة تحصل على حقها السياسي غير منقوص.
وقد كتبت إهداء كتابها بهذا الشكل:
(عبدالله المبارك.. زوجي
ومعلمي.. وحبيبي..
وصديق الزمن الجميل)
 
وكانت أول رسائلها:
 
(يا أكثر من حبيبي..
إنه الوضوء بمياه ضوئك..)
 
وفي الرسالة رقم 39:
عبدالله يا أحلى الأسماء..
ترحل وتقفل الباب على زمن رائع عشته معك..
من الزمن الكويتي إلى الزمن اللبناني
إلى الزمن المصري.. إلى الزمن السويسري
إلى الزمن الانجليزي
أشعر أنني تعبت وأن الوقود في سفينتي بدأ ينفد…
 
(عندها تعلن أنها تقفل باب الزمن حيث خبأت أجمل أيام عمرها، وحيث دفنت أثمن كنوزها..)
 
****
وفي التجربة الأدبية لسعاد الصباح الممتدة التي أقلعت رحلتها الأولى في ديوانها الأول “من عمري” عام 1963 وكانت استراحتها الأخيرة “رسائل من الزمن الجميل” هناك درس أخلاقي في الشعر.. فقد اعتدنا من أهل القصائد شعراء وشاعرات أن يكتبوا عن أحبة لهم لا نعرفهم، بل نجهل أسماءهم وأشكالهم..  فهم ليسوا أزواجا ولا زوجات.. إذ أن تجربة الشعر رسّخت في أذهاننا أن الزوجة لا تصلح أن تكون حبيبة، ولا الزوج يستحق أن تدبج فيه قصائد الغزل.. وذلك ما يشبه الهروب الشعري بالإحساس إلى الآخر البعيد..
وتجارب قليلة صرحت بشخص الحبيب.. القريب.
أشهرها غادة السمان التي نشرت رسائل غسان كنفاني إليها.. وهناك فرق كبير بين رسائل سعاد إلى زوجها وحبيبها عبدالله المبارك،  ورسائل كنفاني إلى غادة ..
فلايخفي على لبيب تلك النرجسية وحب الذات التي دفعت غادة إلى النشر وما تنطوي عليه من خيانات أسرية.. وهو عكس حال سعاد الصباح في رسائل التفاني والاخلاص والعفة والوفاء.. وإنكار الذات.. فهل نصدق أن الحبيب عبدالله المبارك لم يكتب أي رسالة إلى الزوجة الشابة الجميلة الحبيبة.. لكن أم مبارك لا تتاجر بمشاعر الزوج الحبيب..
وهي لم تنشر رسائلها إليه الا بعد وفاته، وذلك منتهى الاخلاص والصدق في مشاعر لاتريد فيها ردة فعل من الطرف الآخر…
 
 
لقد بدت غاية الحب وأوجه وذروة سنامه وبكل وضوحه في كتابها (رسائل من الزمن الجميل) الذي يظهر الحبيب باسمه وكامل أوصافه وبصورته دون تلميح بل بصريح العبارة: هو عبدالله المبارك من الخطوة الأولى إلى المثوى الأخير.. منذ ذلك اليوم الذي طالع اسمها في كشف الفائقات في الصف الأول ثانوي فاختارها، إلى اليوم الذي طالعت وجهه للمرة الأخيرة وهو يذهب إلى جوار ربه..
 
وعندما  نعقد مقارنة بين رسائل سعاد ورسائل غادة… نجد أن رسائل الكتابين مكتوبة بحبر العشق وأقلام الشوق ومادة الولة.. ومرصوفة على ورق الحب.. لنجمتين لامعتين في سماء الأدب العربي.
كتاب أعدته سعاد الصباح، وآخر أعدته غادة السمان.
وعندما يخضع الكتابين للنقد الفني.. تخرج غادة من مادة الحديث ولاتحضر إلا كملهمة محبوبة أثيرة يلاحقها كاتب عربي شهير، هو ليس زوجها.. بل إنه متزوج من امرأة ويبرر لامرأة أخرى  خيانته.. حيث يبلغ إعجابه مداه في الكاتبة ويتمدد على مدى صفحات الإصدار الذي أثار ضجة كبيرة وهو يقول لها: (بوسعك أن تدخلي إلى التاريخ ورأسك إلى الأمام  كالرمح. أنت جديرة بذلك(
 
على الجانب الآخر.. تأتي سعاد في مادة الحديث كمحبة وزوجة وفية وعاشقة لرجل هو زوجها.. تبدأ كتابها كأنها تبتهل: (إنه الوضوء بمياه ضوئك) باعتباره  كتاب وله وشوق منها إلى حبيب غاب تحضره بكلماتها ونبضها وقلبها
أما رسائل “غادة”.. فما هو إلا كتاب وله وشوق وعذاب من حبيب غاب إليها.. ليؤكد حضورها.. ويرسخ تميّزها..
سعاد تركت ماتحتفظ به بين أوراقها من رسائل الزوج إليها.. وجمعت مااحتفظ به هو من رسائلها.. فأعادت بث أشواقها الخاصة إلى العلن.
غادة.. فتشت بين أوراقها تلك الأوراق التي تحمل لواعج الأديب المتيم فبث أشواقه الخاصة إلى العلن!
 
وتشير الدكتورة نورية الرومي الى ان سعاد الصباح كانت سباقة في عصرها عندما تحدثت عن حبها لزوجها.. (الابداع في مواكب الثقافة العربية ص 48)
 
وفي دراسته التي حملت عنوان: (صوت الآخر في شعر سعاد الصباح) يتحدث د.تركي المغيض عن الحبيب الذي يدخل في باب “النمذجة” كما صورته سعاد الصباح في شعرها.. تحت عنوان: (الرجل الرمز)
(.. وجاء وصفها لزوجها ليس باعتباره زوجا فقط، وإنما كونه يجسد آمال وتمنيات المرأة في الرجل. ولذلك فقد تجاوزت سعاد الصباح في تقديمها لصورة هذا النموذج الذاتية إلى خلق حالة موضوعية، وانتقلت من الحديث عنه كزوج إلى الحديث عنه كرمز.
والمتتبع لسيرة الشيخ عبدالله المبارك مع الشاعرة يدرك مكانته في حياتها فهو الذي أعطاها الحرية وفتح لها باب الحوار مع موهبتها الشعرية وهو من ركب لها أجنحة تحلق بها في عالم الأدب والشعر، وهو الذي هيأ لها فرصة البلوغ إلى أعلى المراتب العلمية والأكاديمية في حياتها, أضف إلى ذلك ما كان للشيخ من مزايا الرجل الحاكم الذي كان له دور كبير في دولته.
يتابع “المغيض”: ومن أكثر القصائد تحديدا لملامح الرجل الزوج و الرمز وهو على قيد الحياة قصيدة “هل نسيتم”؟ صاغتها الشاعرة تحت تأثير ظرف محدد ولذلك نجدها تركز على الجوانب العامة الإنسانية في شخصيته:
كان في معشره صدرا حنونا
وسنى..  يبهر بالحب العيونا
وندى كالغيث في كف السماء
وإباء ألمعي الكبرياء
وله قلب الصغار الأبرياء
كله خير وطهر ووفاء
أنسيتم أنه صقر الخليج..
مُشرق الطلعة .. فواح الأريج
 
وواضح أن سعاد الصباح هنا – حسب المغيض – لم تركز على عبدالله المبارك كزوج وإنما كرجل رمز ومعلم و وطني مخلص ، وقد تحدثت عنه في كتاباتها وحواراتها كثيرا، فتقول عنه بأنه “رجل حضاري بكل معنى الكلمة، يؤمن بالعلم والمعرفة، وبحق المرأة أن تشق طريقها على قدم المساواة مع الرجل، وإذا وصلت إلى ما وصلت إليه من المعرفة فإن عبدالله المبارك كان وراء مجدي وانتصاراتي”.
 (علي المسعودي حمامة السلام – ص 91 ومايليها)
يكمل المغيض: وهي لاتجد سواه في حالات الحزن والأسى عندما فجعت بابنها، فتهرع إليه باحثة عن الحنان والحب لأنها لاتملك – وتؤكد الشاعرة على التملك – إنسانا وحبيبا وأما وأبا وحضنا سواه:
(لاتلمني ياحبيبي إن توالى ألمي
واكتست نضرة أيامي بلون الظلَمِ
ولمن أشكو عذابي؟ وعلى من أرتمي؟
أنا لا أملك إلا أنت من معتصم..
أنت أمي وأبي.. أنت حبيبي توأمي.. (من ديوان إليك ياولدي)
 
وتخاطب الرجل الرمز الذي جاهد عمره ليعود إلى وطنه، وبعد صبر وتجلد تحققت له العودة.. وتتحول عندها قصيدة الرثاء في الرجل الرمز إلى قصيدة في الوطن وتمجيده، وتستغل الشاعرة موعد وفاة الرجل الرمز الذي تزامن مع تحرير الكويت، مما سمح لها بالعوده الى الحديث عن فارسها ودوره في خدمة الوطن وتأثير الأحداث فيه:
يا أيها النسر المضرج بالأسى
كم كنت في الزمن الرديء صبورا
كسرتك أنباء الكويت ومن رأى
جبلا.. بكل شموخه مقهورا
 
واستطاعت الشاعره – يقول المغيض – بمهارتها الفنية في وصف ما حل بالكويت بسبب الغزو العراقي الظالم أن تؤثّر في المتلقي من خلال رؤيتها بأن الذين
دمروا الكويت لم يدمروه وحده.. بل دمروا تلك الذاكرة التي تتحرك بحرية على أرض الوطن:
غدروا بهارون الرشيد وأحرقوا
كتب التراث وأعدموا المنصورا
عبثوا بأجساد النساء ودنّسوا
قبر الحسين ودمّروا المنصورا
لم يتركوا في الحقل غصنا أخضرا
أو نخلة مسياء أو عصفورا
يا سيدي إن الشجون كثيرة فاذهب لربك راضيا مبرورا
***
ثم تنتقل الشاعرة إلى الاطار العام لصورة الرجل الرمز
تنتقل سعاد الصباح الى الحديث عن الجوانب
 العائلية والفكرية فتقول على الصعيد العائلي:
 
(أنت السفينة والمظلة والهوى
يامن غزلت لي الحنان جسورا
غطيتني بالدفء منذ طفولتي
وفرشت دربي أنجما وحريرا)
 
يكمل المغيض: وتركز سعاد الصباح على مستوى التفكير العالي الذي كان يتمتع به الشيخ وتشير – إلى جانب مهم في هذا الموضوع كامرأة تحمل رسالة الدفاع عن حرية المرأة وحقها في التعبير عن رأيها – إلى أن الراحل مع حق المرأة في حرية الرأي و التعبير عن نفسها بصراحة وشفافية ودون شعور بالخوف أو القمع، فمن شعرها:
 
(وحميت أحلامي بنخوة فارس
لم تلغ رأيا أو قمعت شعورا
الله يعلم يا أبي ومعلمي
كم كنت إنسانا وكنت أميرا
أابا مبارك يامنارة عمرنا
يادرعنا وكتابنا المأثورا)
 
 
 
وللدكتورة سهام الفريح دراسة حملت عنوان (سعاد الصباح وخروجها من سطوة القبيلة) تتناول مدلولات ألفاظ محددة تتكرر في قصائد الشاعرة مثل: أميري، سيدي، مولاي..
حيث ترددت هذه الألفاظ في خطابها الشعري ، وكانت للفظة “أميري” الغلبة في كثرة تكرارها، وقد صادفنا هذه الالفاظ في ديوانها (أمنية) وهو يمثل المرحلة المبكرة في نتاجاتها الشعرية فلا بد أن تكون بدأتها في مخاطبتها زوجها الشيخ عبدالله وهو من كان يملك السطوة والنفوذ في الحياة العامة في مرحلة من توليه لبعض المسؤوليات في البلاد فاستعانت الشاعرة بالمدلول العام لهذه اللفظة ليعبر عن المدلول الخاص المتصل بحياتها، حيث كان يغدق عليها الزوج من فيض الحب، فهو اميرها حبا له وتعلقا به.
لكن الشاعرة تعلقت بهذه الألفاظ وأكثرت من استخدامها بمدلولاتها الخاصة بمضامين الحب (….)
وتتعالى هذه الألفاظ بوضوح في خطابها الشعري في قصيدتها (ابتهالات):
(…..)
ثم تلحقها بلفظة “أميري” من ديوان  أمنية ص 117:
 
يرسم لي وجه أميري الذي
 سلمني في وحدتي للسهر
 
 
وتلحّ لفظة “أميري” على الشاعرة في قصائد عديدة:
يا أميري.. أنت يا أطهر من طين البشر..
 
(أمنية 95)
 
تقول في نفس القصيدة:
 
يا أميري إن حبي لك طفلٌ في الصغر
 
وتشير د.سهام الفريح إلى أن لفظة (السيد) وردت في قصيدتها (فتافيت امرأة) سبع مرات، ثم لحقتها بلفظة (سيدي) في مطلع كل مقطع (سيدي، سيدي) وتعود إليها في مقطع آخر وبنفس التكرار (سيدي، سيدي) الديوان/ 37-48
 
وحين جاءت بلفظتي (سيدي) (وحبيبي) لم تستغن عن هذه اللفظة في قصيدة (وحدي)
 
يا أميري، أنت يا من كنت للروح شقيق
أنت كنزي من الرحمة والحب الرقبق
ياحبيبي وسيدي وأميري
 
– أمنية 74
 
وتستمر الشاعرة في إعلان استسلامها وخشوعها لهذا الحبيب في قصيدة (خطاب):
 
 
 
(مولاي إن جاء هذا الخطاب..)
 
وتقول:
 
(مولاي قلبي في انتظار الجواب..)
 
 
هكذا تستعرض د.سهام سطوة مفردات الحب الذي تعلن فيه الشاعرة خضوع قلبها الكامل لحبيبها وأميرها وزوجها، وهو الخضوع بمعناه الإيجابي الذي يأخذ شكل الحب الكامل الشامل… (الابداع 226- 229)
 
 
فالحب – حسب رأي د.مختار محمود محمد – يغير الكون بقوته السحرية، حيث يحوّل الليل إلى فجر والخريف إلى ربيع، ذي ألوان وبهجة وسعادة، ولذلك نجدها تخاطب هذا الحبيب في قصيدتها “أنت”:
 
لولاك ماغنت طيور الربى
ولا حلا في الليل طول السهر
ولا تهادى النجم في أفقه
ولا زها في الليل ضوء القمر
ولا تناغى نغم حالم
صفا به العيش وطاب السمر
 
 
ويخلص د.مختار في دراسة له حملت عنوان (بين الأمنية والحلم) إلى أن أثر هذا الحبيب واضح في شعر سعاد الصباح ( الإبداع – ص 257)
 
***
 
وتظل سعاد الصباح حالة خاصة ونادرة من الوفاء.. يمكن استنباطها من تتبع صورها الكثيرة على مدى تاريخها وهي تقف دوما إلى جانب عبدالله المبارك بشخصه، ثم إلى جانب صوره الكبيرة التي تتصدر القصر الأبيض .. بعد رحيله!