فن وثقافة

قصة قصيرة
أبوعرجة.. في مدينة العجائب

يسمونه “أبوعرجة”.. لأنه يستخدم قدما ونصف حين يمشي، لكنه رغم إعاقته يهابه الآخرون ويرونه خصماً عنيداً ليس من السهل التغلب عليه.
قضى صباه متسكعاً في شوارع الواحة، تلك المنطقة لا تحمل من الجمال سوى الاسم فقط،  يعرفه الكبار والصغار باسمه الثنائي ملحوقاً بكنيته تلك..
خاض الكثير من المعارك مع عصابات المنطقة المشكلة في الغالب من فتيان لايتخطى  عمر أكبرهم ستة عشر عاماً وخرج منها منتصراً. ويقال إنه أول من استخدم السلاح الأبيض الذي أصبح فيما بعد عرفاً في مشاجرات الأحداث. 
ويذكرون ايضاً انه بعد واحدة من المعارك الفاصلة لم يجرؤ أحد على منازلته… 
والمنازلات بين أؤلئك الفتية تأخذ شكل المعارك الحربية في أزمنة الفتوحات، يتقابل الفريقان ويبدأ اختبار القوة بالمواجهة الفردية ثم يكون الالتحام الجماعي، أما (أبوعرجه) فيكفي أن يكون حاضراً مع مجموعته ليحسم لها النتيجة قبل بدء المعركة.
ذاع صيته، حتى تجاوز حدود الواحة،  وأصبح اسمه على ألسنة الكثيرين في المناطق القريبة والأخرى البعيدة، بل إن هناك من يقول انه قبل أكثر مرة ان يكون أجيراً لدى جماعة أو أكثر خاضت مواجهة مع جماعة أخرى مناوئة.
****
أكثر من عشرين عاماً مضت ترك خلالها الكثير من أهالي الواحة منطقتهم وانتقلوا للسكن في المناطق المجاورة.. بعضهم باع بيته وآخرون استبدلوا بها بيوتاً اخرى في المدن الحديثة التي نشأت لقاء دفع فارق السعر.. 
أبوعرجة وعائلته لم يكونوا استثناء، لكن أحداً لا يعرف في أي مدينة استقروا سوى أنهم رحلوا وحسب، ومنذ ذلك الحين لم يحدث ما يعكر صفو الواحة، ولم تشهد مشاجرة بين أحداثها شبيهة بتلك التي كان أبوعرجة واحداً من أبطالها.. ساد المنطقة هدوء لم تعهده، فقد نشأ جيل  لم يرث عن الجيل الذي رحل حياة التمرد، بل ان الذين يزورونها اليوم يشبهونها بالمقبرة، اذ تنقطع عنها الحركة ليلاً سوى أصوات السيارات الخارجة منها والداخلة إليها، وما عدا ذلك لا أثر للحياة فيها الا داخل بيوتها الصغيرة المتراصة.. وليس ذلك لغياب “ابوعرجة” وجيله فقط، بل لأسباب أخرى تتعلق بالطفرة المدنية التي أصابت الدولة خلال عقدين ماضيين، وأصبحت معها الأسواق والمجمعات التجارية المكان الأكثر جذباً لمن هم في سن الحداثة.
بعد سنوات من الغياب عاد ابوعرجة الى واحته مهنئاً في زفاف احد ابنائها، الذين شاهدوه لاحظوا تغيراً كييراً في قسماته، ليست هي التي يتركها عامل الزمن، ولولا الجرح الذي يعلو حاجبه الايسر لما عرفه أحد، اكتسى وجهه بشارب كث، وبدت ملامحه ضاربة الى الحمرة.. ليس هذا وحسب، بل لوحظ تغير جذري في فكره وفي اهتماماته…
****
انقطع أبوعرجة عن الظهور فترة طويلة، ولما عاد، عاد شخصاً آخر، ليس هو الذي كان يقضي جلّ وقته تائهاً في الشوارع والساحات، سلك اتجاهاً آخر في الحياة، فقد أصبح أديباً .. يكتب الشعر ويتلوه في الأماسي والمناسبات، قصائده باتت هدفاً لاهتمامات النقاد ومقالات المحللين، وغدا اسمه متداولاً في صفحات الادب.. أكثر من ذلك تحول ابوعرجة إلى عضو بارز في لجان التقييم ورعاية الموهوبين واختيار الشعراء..
هناك من لم يستوعب ذلك التحول الكبير في حياة “ابوعرجة”.. لكن الاخرين باركوه وصاروا يتباهون به في مجالسهم…
“ابوعرجة أصبح أديباً، أمر مثل هذا لا يحدث الا لمن عاش في الواحة”..
هكذا يرددون  باستمرار في اجتماعاتهم!