فن وثقافة

منى الشمري: الكتابة أكثر ضراوة من العبث.. وهي استشفاء من خذلان العالم!

الحوار مع القاصة الكويتية منى الشمري يعني الدخول إلى جنة ذاكرتها، الطفلة التي أدركت أنها «النغمة النشاز في البيت»، و«نبتة الظل التي تحرقها الشمس» فنسجت حيلتها بالكتابة، عائدة 25 عاما إلى الوراء، لتصدر مجموعتها القصصية «يسقط المطر تموت الأميرة».
بحوارنا معها.. كنا مع الطفلة وكأنها لم تخرج من منطقة «الفحيحيل»، ودعت العالم ليفترش برها باتجاه البحر، من هناك تحدث المهمشون، ونطقت الآلام والمآسي، وارتسمت ملامح على «القصة العصية على الكتابة» كما وصفتها، ومرت بنا «كركرات فرح» عجلة..
• يرتبط الإصدار الأول بحياة الكاتب.. ومن ذاكرة «المكان» جاءت مجموعتك القصصية، فهل هذا إخلاص لـ «الفحيحيل» أم للذكريات أم لخبرات دونتها؟
– ربما لكل ذلك معا، لإعادة الاعتبار الإنساني للمكان ولحبي لحضوره النسقي المتناهي بالجمال والثري بالحكايا ولفيض الذكريات فيه، التي تترك مساحة طبيعية للخبرات بالتراكم وعامل الزمن، رغم أنني لا أوافقك الرأي بأن الإصدار الأول يرتبط بتفاصيل حياة الكاتب، وهو أمر ليس بالضرورة أن يتوافق مع تجربة كل كاتب، لكني وجدت الفحيحيل فضاء سرديا خصبا يليق بالكتابة، ثم افتعلت البدايات والنهايات لأرسم شخوص قصصي.
• ما الذي أقصيته من تلك الذاكرة؟
– أقصيت حزني الخاص، وقصتي العصية على الكتابة، لتبدو أجوائي الشخصية مثالية وهي ليست كذلك في الواقع، لأنني على يقين بأن القارئ قد يربط بيني وبين القصص التي أكتبها بوجع، وسيبحث عن الكاتبة في ملعب طفولتها، ولأنها في الحقيقة ليست سيرة ذاتية فقد تعمدت أن أغيب حياتي الخاصة، لكني فتحت كل الثقوب المؤلمة في الذاكرة التي أغلقتها بسدادات سارية الصلاحية حفظها الزمن بشكل فاق طاقتي، ليهطل بؤساء الطفولة الذين يكفي مخزون حزنهم وعذاباتهم لمجموعة قصصية ثانية وثالثة.
أسئلة المهمشين
• اهتمامك بالمهمشين وقضية الهوية والأمراض الاجتماعية بدا واضحا في نسج القصص، وبلغة سلسة وكأنها تريد السيطرة على «الحدث» أكثر من الاشتغال اللغوي، وذلك يثير أسئلة عدة:
أتجدين أن الاشتغال اللغوي ينشئ فجوة بين النص والقارئ؟
– الهوية كانت العنصر الأبرز في التكنيك الفني، وحاولت أن أطعمها بالتراث الكويتي، لكن أثناء الكتابة ونسج القص اهتممت باللغة إلى الحد الذي بدت فيه شاعرية على حد وصف الروائي الكبير إسماعيل فهد إسماعيل، وأحب العمل على لغة شفيفة تنضح بالصدق والألم، لتنقل روح العمل الأدبي للقارئ من دون تكلف لغوي أو تعال مفتعل، فهذا النص للقارئ يهمني ألا يحدث بينهما فجوة من أي نوع، وأن يقع في حبه ولكن بمقياس يناسب سقفي وطموحي، وإن كان ما قدمت من لغة لا ترقى حتى الآن لطموحي. 
• ما الذي تعنيه لك «الغاية» في الأدب؟
– أعتقد أن العمل الأدبي لابد أن يحمل دلالاته الخاصة سواء كانت اجتماعية أو سياسية أو تاريخية، ونظرته الفلسفية ويقول شيئا في النهاية، يكثف فكرة، يطرح معضلة، يوثق لحقبة ويعري ما نخاف أن نبوح به أحيانا على أكثر من صعيد ومستوى، وقد يكون بوحا خالصا كما في بعض الأعمال، مع احتفاظه بعنصر المتعة والتشويق، قوة الرسالة من كتابة إلى أخرى ومن كاتب إلى آخر متفاوتة، وقد تبدو هنا قوية مباشرة وهناك خفية متوارية، إلا أنه لا عمل بلا هدف، فالكتابة أكثر ضراوة من العبث. 
إعلان تمرد
• النسق الذي جمع قصص مجموعتك يدفع للظن بأنها أنجزت في لحظة تمرد على سيرورة الحياة..
-هذا النسق بترابطه الروحي والوجداني والمزاوجة بين التاريخ والجغرافيا، كان مشغولا فنيا برأسي منذ فترة طويلة من الزمن، لكن ديناميكية الكتابة بحد ذاتها هو كل ما كان ينقصني، أن أنقلها على الورق ـ إن صح التعبير بعد الكتابة على الأجهزة، كل ما فعلته أنني جمعت شتاتها الذي كان في ذاكرتي وقلبي، وأعلنت لحظة التمرد على سجنها لأفك قيدها وقيدي معا، وأبدأ دون تراجع عن الطباعة التي سجلت سيرورتها في منجزي الأدبي.
الكتابة الروائية
• تركيزك على الوصف واهتمامك برسم الصورة للقارئ دقيقة في القصص.. أهو مفتاح ضرورة الكتابة الروائية التي اتجهت إليها كما علمت؟
– نعم هو فعلا مفتاح ضرورة بالنسبة لي يفتح أمامي أبوابا موصدة في البناء الفني، كان من ضمن الآراء التي حصدها كتابي أن الجمل طويلة نوعا ما، والتفاصيل الوصفية دقيقة ومستغرقة حتى أزعجتني هذه الملاحظات قبل الطباعة، حينها اتصلت بالناقد البحريني أخينا الكبير إبراهيم غلوم، وسألته فقال هذه ميزة، فالتفاصيل مهمة واكتبي كما تحبين لا كما يحب غيرك.
وعليه فسيكون عملي الروائي القادم مشبعا بالتفاصيل لأنها هي من تكتبني ولست أنا من يكتبها، ففيها متعة تحويل السطور إلى مشهد بصري متخيل عند القارئ الذي يعيش اللحظة، يمسكها ويشم رائحتها، وأحب أن تكون تفاصيلي بصرية ليتحول العمل الأدبي وكأنه مرئي يشبه لوحة أو جدارية أو مشهدا سينمائيا، وهو أمر متعب ويتطلب جهدا وجلدا ومكابدة، حيث تبدو الأعمال التقليدية الصامتة أسهل في الكتابة لكني لا أفضلها.
• ما الفكرة التي جعلتك تدركين أنها لا تكتب إلا كبناء روائي؟
– الأمر أبسط من القرار وفي الوقت نفسه أعقد منه، حين أقرر الكتابة أدخل أعماق الفكرة وهي من تمسك بيدي لأطوف في دهاليزها فقد تلقيني في بئر، وقد تفرش لي حديقة من التخيلات، وقد يأكلني حزنها بوحشية، قد تطلق يدي وتعتقني فأحلق بخفة فراشة، وربما أموت في سيرورتها أكثر من مرة في حياة أكتبها، وربما يبتلعني بحرها الدرامي، الخيار ليس بيد الفكرة ولا مرهون في متانة البناء الدرامي، إنه ملك خالص لفعل الكتابة، وعلينا مواجهته مهما كان شرسا وقاسيا، فنحن في ذل مطلق أمامه.
هواجس الكتابة
• قبل الكتابة.. بعد الكتابة.. ما هي توجساتك؟
– قبل الكتابة تشغلني الفكرة، فهي النواة الأساسية وهي التي تحدد نوعية ونجاح العمل الأدبي، ولابد أن ألتقطها من الواقع لأنني أفضل الكتابة الواقعية، لا يأسرني العبث ولا الخيال العلمي ولا توظيف الأساطير وأنا لا أعيب عليها، فهناك منجزات أدبية رائعة في هذه الحقول، لكنني أتحدث عن مزاجي في الكتابة، وكل تلك العوالم لا توافقني، بعد الكتابة يقلقني الأضواء التي تسلط علي أنا امرأة أحب الظل، ولا أعرف كيف أنجح وأكون كاتبة معروفة ومنتشرة دون أن أكون نقطة ضوء في قلب الشهرة، وهذا يخلق لدي قلقا، أعتقد أن النجومية تحرق المبدع ولابد دائما أن يترك بينه وبينها مسافة تؤمن له العزلة المريحة، أنا نبتة ظل تحرقها الشمس.
• ما مشروعك الحالي للكتابة؟
أكتب في روايتي «غالية» وأكتب نصوصا سردية جديدة قد أجمعها في كتاب مع مقالات سابقة لي، وأنهيت نصا قصصيا سيطبع ضمن نصوص لمبدعين كويتيين، تحت عنوان «مختارات من القصة القصيرة». 
• ما رأيك بالتصنيفات التي تعتمد على الزمن لتوزيع الألقاب وتؤسس للأجيال الأدبية؟ 
-لست مع التصنيفات الأدبية ولا قولبة الإبداع في قوالب العرض والطلب في سوق الزمن والأجيال، أو تماهيه مع طبيعة العصر أو رغبة المثقف وما يكتب المبدع، من حق المبدع أن يختار الشكل الأدبي الذي يطلق فيه موهبته الحقيقية من دون تزلف للجيل المبدع في أي حقل كان، بل إن الشكل الأدبي هو من يختار نفسه رغم أنف المبدع بعيدا عن بضاعة العصر، لكن لأن الشعر ديوان العرب منذ وجد العرب لهذا كان متسيدا في عصور ذهبية، والرواية فن حديث مقارنة بالشعر، وحين تنتشر في العقد الأخير بهذا الشكل الجميل فهذا يعني أنها كفن بدأت تستهوي القارئ العربي، وتفرش مساحتها الخاصة إلى جانب الأطر الإبداعية الأخرى والزمن كفيل بالمراهنة، وحفظ العمل الأدبي الخلاق بما يحقق له العدالة والإنصاف، غاضا الطرف عن جنسه النوعي. 
• أخرك العمل الصحافي عن إصدار هذه المجموعة.. فهل أثر الاشتغال «الإخباري» في أسلوب الكتابة؟
– للأسف إن هناك جانبا لا يعرفه إلا أهل المهنة، حيث إن العمل في «المطبخ الصحافي» تحديدا، وهو تحرير المادة وإعادة صياغتها كان يثير أعصاب وقلق المبدع العامل في المهنة من سوء ورداءة ما يمر علينا من مواد صحافية تشوه مخزوننا الشخصي من اللغة، الذي نستنفذه في إنقاذ المواد الركيكة لجعلها صالحة للنشر، وأتذكر زملاء شعراء تركوا العمل الصحفي لهذا السبب، ففيه تجفيف حقيقي لبهاء اللغة، وعليه فالاشتغال الإخباري كان يؤطر الخيال ويضيق الأفق أمام كتابة القصة. 
على ذي بدء..
• بمن تأثرت في الكتابة؟ وهل لأحد دور في توجيه بعض النصائح شخصيا؟
– لم أتأثر بأحد على الإطلاق لأنني بدأت الكتابة والقراءة في عمر الثامنة، ونشرت لي خواطر في الصحف ومقالات في عمر مبكر، وبعد الغوص في مئات الكتب والمجلدات لن يكون الكاتب إلا نفسه، سيخرج من خلاصاتها برحيق روحه الخاص، فلم أقرأ كتابا أو عشرة لأقرر أن أكون كاتبة بعدها، ولم يكن لأحد دور في توجيهي منذ طفولتي نحو القراءة، بل كنت الطفلة الوحيدة التي تقرأ في البيت وكنت النغمة النشاز بينهم.
• بين القراءة والكتابة.. عم تبحثين؟
– أبحث عن عمل يبهرني وهو أمر لا يتوفر لذائقتي دائما، قراءة غير تقليدية تشدني إلى حياة جديدة، كتاب يبوح بسر أو فكرة ما، يسهل علي اصطيادها، ولغة تأسرني وحبكة فنية غير تقليدية، أبحث في القراءة عن لحظة ممتعة قد لا تتوفر في غيرها، كلنا تحتاج إلى قراءة تحلق بنا بعيدا عن هموم شخصية ولهاث يومي في ماراثون الحياة المتعبة.
أما الكتابة فهي عشق أثير وضرورة حياتية وغاية، وتماثل حالة استشفاء من ذاكرة تختزل الألم وخذلان العالم، أبدو مثل سفينة تفرغ حمولتها الثقيلة في البحر لتنجو من الغرق، والكتابة تكنس خطوات الآخرين وآثار أقدامهم على قلبي حتى أتصالح مع نفسي والعالم بلا حقد أو حسد أو كراهية، عاملان يحفظان الوعي عندي في معدلاته المثالية الصلاة ثم الكتابة، بعدها أنام بسلام دون أن ألتفت للسواد الكامن في الجهة الأخرى. 
• وما الجديد الذي اكتشفته في نفسك.. مع الكتابة؟
– ربما حرصي على مبادئ أخلاقية معينة تمثل محاذير إبداعية بالنسبة لي بعيدا عن الابتذال، فأنا لا أملك الجرأة مثلا في الكتابة بشكل مطلق وأعتني بالجانب الإنساني بتفاصيله العميقة، وأمارس دور الأم في تهذيب ما أكتب وتقليم أظافره الحادة ليكون الأدب نظيفا إلى حد يرضيني، وحين يخطر ببالي وصف معين جريء أتجاهله تماما، ووجدت أنه هاجس لدي اكتشفته أثناء عملية الكتابة، كما أجدني مشدودة لأبعاد فلسفية في نصوصي الأخيرة. 
• هل تمنيت العودة -فعلا- 25 عاما إلى الوراء كما فعلت في المجموعة القصصية؟
– إطلاقا لم أتمن ذلك يوما ولن أتمنى العودة لما تركت خلفي من أعوام عجاف، فلم تكن طفولتي سعيدة حتى يسرني العودة إليها، وما عاد للوراء هو الذاكرة في سيرها الحثيث لتستعيد صورا ووجوها حقيقية وومضات خافتة، وروائح وحيوات ملونة واستخدمتها في تقنيات القص ضمن نصوص سردية متخيلة وواقعية إلى حد ما.