كتاب سبر

حرب اليمن فرصة وليست نزهة!

ما أن صمتت مدافع الحرب العالمية الثانية في صيف 1945م، وانجلى دخان المعارك، حتى ظهر حجم الخراب والتشويه الذي ألحقه الإنسان المجنون بنفسه.

 لم تعد أوروبا جميلة كما كانت قبل الحرب، فلم يتبق منها سوى بلاد مدمّرة، مجتمعات مفكّكة، أسر بلا مأوى، بؤس مفجع، وجوع لا ينتهي.

على الضفة الأخرى من الأطلسي، وعلى بعد آلاف الأميال، تبدو أمريكا مسترخية أخيرا، وتتطلّع، بطمع شديد كعادتها، لاستثمار النصر بصفتها الرابح الأكبر.

كانت أمريكا والاتحاد السوفييتي، خلال الحرب، في خندق واحد، أدولف هتلر وحّدهما كحلفاء في مواجهته، وفرّقهما كأعداء بعد موته، أخيراً نزع العم سام والدب الأحمر بزّتيهما العسكريتين، وعاد كل منهما إلى خندقه الأصلي، لم يكن الأمر مفاجئا، فالصراع الأيديولوجي كان سابقا للحرب، كما أن بعض مؤشرات الحرب الباردة القادمة، كانت قد ظهرت خلال سباق القطبين المحموم نحو برلين، قبيل استسلام ألمانيا.

جورج مارشال، وزير الخارجية الأمريكي، آنذاك، سافر إلى أوروبا كي يشاهد بنفسه، ما لحق بها من دمار، فهاله ما رأى، عاد إلى الرئيس هاري ترومان وأخبره بأن الشيوعية باتت تهدد فرنسا ولن يحجزها بحر المانش بعد ذلك عن الوصول إلى بريطانيا، وعندما تقع هاتان الدولتان الصناعيتان في قبضة الاتحاد السوفييتي؛ سيرفع العالم كله الأعلام الحمراء، خصوصا في ظل انخراط الشباب الأوروبي في الحركات اليسارية والشيوعية التي نشطت في إيطاليا وإسبانيا واليونان وألمانيا وحيثما استوطن الفقر والبطالة والبؤس.

لم يكن التصدّي لخطر الشيوعية هو المحفّز الوحيد لأمريكا كي تنقذ أوروبا، فالأخيرة كانت سوقا مغرية كبيرة لبضائع أمريكا واستثماراتها الهائلة التي شهدت كسادا حادا بسبب الحرب، فكان انتعاش أوروبا يعني ببساطة، انتعاش الاقتصاد الأمريكي، فأمريكا لا تصرف سنتا واحدا بلا مقابل، والرأسمالية لا تقدّم الحسنات.

نجح ترومان في إقناع الكونغرس بتخصيص مبلغ 20 مليار دولار( قد يساوي الآن 200 مليار تقريبا) دعما لـ”مشروع مارشال”، هذا المبلغ الهائل نجح، خلال سنوات، في تحويل أوروبا إلى سوق أمريكية رائجة، وصنع منها سدّا منيعا أوقف المد الشيوعي الجامح.

لو أن دول الخليج المتخمة بالنفط تمتلك رؤية استراتيجية مشابهة؛ لما أصبح اليمن فريسة للفقر والجوع والإرهاب…ولإيران. ولو أن دول الخليج دفعت بعض المليارات لإنشاء المصانع والمدارس وشق الطرق وتوفير فرص الحياة الكريمة لأبناء الشعب اليمني، لما احتاجت الآن، لإلقاء هذه المليارات من السماء على أرض اليمن على شكل صواريخ وقذائف وقنابل، لن تترك وراءها سوى الدمار والموت والحقد.

حان الوقت كي تتحدث أنظمة الخليج بلغة المصلحة المتبادلة، وهي اللغة الحضارية الأكثر رواجا وانتشارا في العالم الحديث، ثبت، الآن، أن مصلحة الخليج تحتّم ضم اليمن لمجلس التعاون الخليجي، وإن كنت أظن بأن الحرب ستنجلي عن أكثر من يمن واحد.

لم يعد هناك بد من إنشاء صندوق خليجي لإعمار وإنعاش اليمن، الفوائد كثيرة من هذه الخطوة، وسيكون الخليج المستفيد الأكبر على المدى الاستراتيجي، أبسط هذه الفوائد؛ الاستعانة بالأيدي العاملة الرخيصة وفتح الأسواق اليمنية أمام الاستثمار والبضائع الخليجية، وصولا إلى تأمين مضيق باب المندب، والأهم من هذا كله حماية خاصرة السعودية وتحصينها من التغلغل الإيراني الذي يكاد يُطبق على رقبة الخليج.

الحديث عن عوائق وهمية مثل “الخصوصية الخليجية”، والاختلافات الدينية والمذهبية مع اليمن، واختلاف نمط نظام الحكم اليمني، غير واقعي، فأوروبا تضم 27 دولة من بينها الدول الكبرى التي أشعلت الحربين العالميتين واحتلت كل منها الأخرىن، كما أن هذه الدول تتحدث 23 لغة مختلفة، وأنماط حكم هذه الدول مختلفة بين الملكية والجمهورية، ولديها اختلافات دينية حادة تتمثل في الكاثوليكية والبروتستانتية والأرثوذكسية، وتاريخ هذه الطوائف مازال مبللا بفظائع دموية قل مثيلها في تاريخ أديان البشر، كل ذلك أصبح من الماضي، بعد أن بحثت كل دولة عن مصلحتها، فوجدتها في قيام مشروع عصري قادر على مواجهة تحديات العالم، وقادر مستقبلا على قيادة العالم، وهو”الاتحاد الأوربي”.

حان الوقت كي تنظر أنظمة الخليج إلى ما هو أبعد من تأمين العروش، وتكديس الثروات، وقمع الشعوب، وتوسيع السجون، حان الوقت كي تعتمد دول الخليج على نفسها في حماية نفسها، فالدعم الأمريكي لم يعد مضمونا، خصوصا وأن إيران لم تعد ترى في أمريكا شيطانا أكبر أو أصغر، كما أن أمريكا، بدورها، لمست جدوى التنسيق مع إيران، وكان ذلك جليّا في أفغانستان والعراق، وفي الملف النووي مؤخرا.

حرب اليمن ليست نزهة كما يظن البعض، وأتمنى ألا نكتشف ذلك بعد فوات الأوان، أمامنا فرصة تاريخية لبناء كيان خليجي حقيقي قائم على احترام الشعوب أولا، ثم على المصلحة المتوازنة والمتبادلة بين أعضائه.

هكذا تدوم الدول وتنهض الشعوب وتتماسك المجتمعات وتثبت العروش المهتزّة.