من الأحاديث المتواترة (رواها كثيرون جدا) حديث للنبي يحذر فيه وينذر بمصير النار من يكذب عليه، وهو حديث ارتقى إلى مرتبة لا شك فيها إطلاقا لكثرة رواته فصار متواترا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار”.
ولماذا التشدد في هذا الشأن (الكذب على النبي تحديدا) مع إطلاق الإباحة للسرد عن روايات بني إسرائيل بما لا يتعارض مع الدين الكلي؟.. الجواب لأن كل قول ينسب إلى النبي يترتب عليه تشريع باعتبار أنه صلى الله عليه وسلم “مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى* وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى” النجم 2-3-4، فكان لازما التشدد بالتنبيه، فيكون الكاذب على النبي يتبؤأ مقعده في النار، والقعود معناه المكث الطويل فهو مقعد في جهنم يقعد فيه صاحبه مذموما محسورا فكيف بمن يقول إنه ابن النبي!؟.
النبي صلى الله عليه وسلم كان وحيد أبويه ولم يكن له أشقاء ولا أبناء ولم تتزوج أمه غير أبيه وكذلك أبوه، فهما ماتا في صغره وانتهى أمرهما، ولهذا عبرة لم يجعلها الله بالنبي محمد فقط ولكنها سمة مشتركة لجميع (أعضاء) الذرية التي (بعضها من بعض): “أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا” مريم 58، فهذه هي الذرية التي جرى (الاصطفاء) منها لحملة الرسالة عليهم الصلاة والسلام.
ويمكننا استنادا إلى القرآن الكريم التحدث عن هذا تفصيليا ابتداء من رسول الله إبراهيم عليه السلام أب الأنبياء والذي أسمانا مسلمين “وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ” الحج 78، فمن فرعين لـ (الذرية) جاء الأنبياء، إسماعيل أولا، وإسحاق ثانيا والأخير كان له ولدان هما العيصو (وفي لفظ العيصو) ويعقوب فتم الاصطفاء ليعقوب فانتهى دور وأثر العيص!
فالأمر ليس مسألة قبيلة كل من ولد منها كان لها وقال أنا ابن أمها، بل إن إبراهيم نفسه كان له ولد كثير من زوجة أخرى غير سارة وهاجر ولا ذكر لهم!
ويعقوب (كثير العقب) كان له أحد عشر ولدا غير يوسف وليس لهم في القرآن من دور أو أثر بعدما ورد من قصتهم مع أخيهم المختار من الله بعد أبيه نبيا رسولا، ولا لذرياتهم حتى (يبتلش) الناس بهم باعتبارهم (أبناء رسول الله)!
ويعقوب عليه السلام وهو البدوي الذي يعرف أصول توقير الكبير على الصغير لم يكن جاهلا أو ظالما حتى يميز بين أبنائه فيهتم بأحد دون الآخر، ولكنها الرسالة والاصطفاء الذي يعلمه من ربه باعتباره (نبيا يوحى إليه) فكان أشد حرصا على يوسف لأن يوسف سيحمل من بعده الرسالة ما شاء الله له ذلك.
وقد كان هذا شأن زكريا مناديا ربه أن يعطيه (وارثا) للنبوة “إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا* قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا* وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا” مريم 3-6، فقول زكريا (يرثني ويرث من آل يعقوب) فالنبوة هي الميراث الذي يخشى عليه زكريا، فكل هؤلاء الأنبياء كانوا نتاج (دعاء) إلى الله أو (بشرى) يبشر الله بهم آباءهم ليستمر بهم (خط الاصطفاء) الذي يريده الله سبحانه لاستكمال رسالته.
ولهذا كان ختام الذرية من فرع يعقوب إعجازيا بيحيى أولا، ثم بعيسى عليهما السلام وهما ابنا خالة وكلاهما مرفوع في السماء ليكذب الله روايات اليهود عن قتل يحيى عليه السلام فهو رُفع إلى السماء بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الخاص برحلة المعراج إلى ربه الأعلى سبحانه.
فعمران والد مريم تزوج من امرأة اسمها حَنَّة وزكريا تزوج من امرأة اسمها إِيشَاع فأنجب عمران وحنة مريم وأنجب زكريا وإيشاع يحيى عليهم السلام، وهناك قولان في من تكون إِيشَاع أم يحيى الأول أنها أخت مريم وهو قول الجمهور كما يقول ابن كثير في البداية والنهاية الجزء 1 ص 438.
ويجري الاستدلال بحديث المعراج عن مالك بن صعصعة رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به فكان مما قال: ثم صعد حتى إذا أتى السماء الثانية فاستفتح قيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد أرسل لإليه؟ قال نعم، قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء ففتح فلما خلصت إذا بيحيى وعيسى وهما ابنا الخالة قال هذا يحيى وعيسى فسلّم عليهما فسلّمت فردا ثم قالا: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح (البخاري 3207، وهذا لفظه ومسلم 164) أما القول الثاني فهو أن إيشاع هي أخت أم مريم حَنَّة فتكون خالة مريم.
وذكر هذا ابن إسحاق وابن جرير في جامع البيان الجزء 3 ص 234 واقتصر عليه الحافظ ابن حجر في فتح الباري الجزء 6 ص 68 فكيف يكون النبيان ابني خالة؟.. قالوا لأن خالة الأم بمنزلة الخالة الحقيقية فأم يحيى خالة مريم فهي خالة ابنها عيسى فتكون مريم ابنة خالة يحيى فيكون ابنها عيسى ابن خالته أيضا!
وممن قال هذا في تفسيره الإمام أبو السعود الجزء 2 ص 27 وهو ما يلقي الضوء على (إعجاز) ميلاد مريم نفسها وليس (إعجاز) مولد عيسى فقط كما كل الذرية، فامرأة عمران (حنّة) لم تكن تحمل وتلد فلما حملت بمريم بإذن الله نذرتها لله ولخدمة البيت المقدس وهذا ما يؤيده السياق القرآني كـ (مصحح) تماما.
يقول تعالى: “إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ” آل عمران 35، وفي تفسير ابن كثير (تفسير القرآن العظيم) جزء 1 ص 478 قال محمد بن إسحاق كانت (امرأة عمران) لا تحمل فرأت يوما طائرا يزقّ فرخه فاشتهت الولد، فدعت الله تعالى أن يهبها ولدا فاستجاب الله دعاءها فواقعها زوجها فحملت منه فلما تحققت الحمل نذرت أن يكون محررا أي خالصا مفرغا للعبادة ولخدمة بيت المقدس فقالت: ما قالت (الآية السابقة) فمولد مريم نفسه معجزة إلهية كما تظهر ذلك الآيات التالية المفصلة لهذا الميلاد العظيم.
ولهذا كانت مريم هي المصطفاة على كل نساء العالمين (الإنس والجن) فلا تبلغ أي امرأة رتبتها وهذه حكمة فالله لم يرد أحدا غيرها لإعجاز ادخره لها، فهي التي ستلد نبيا رسولا من غير أب وهو ما لم يحصل مع أي بشر آخر وإن كان خلق عيسى (من طين كآدم) لكن ميزته لا تدانيها ميزة أخرى بين الخلق.
فهو (المسيح) ختام الذرية من فرع إبراهيم الثاني أي نهاية الرسالة من هذه الجهة وهو المرفوع إلى السماء ولذلك لن تجد في القرآن كلمة (اصطفاك) لأي أحد آخر منذ حواء وحتى فاطمة بنت محمد وبقية بناته وزوجاته جميعا وإلى يوم الدين، فلا أحد من النساء مثل مريم التي يقول سبحانه وتعالى فيها: “وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ” آل عمران 42، وتكرر الاصطفاء لمريم مرتين في الآية: “.. يا مريمُ إن الله (اصطفاك) و (طهّرك) و (اصطفاك) على نساء (العالمين)” فوق ما منحها الله من سورة باسمها في الكتاب وسيرة عطرة وانتساب ولدها إليها ومن البشارة ووجاهة ابنها “إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ” آل عمران 45.
بل إن مولد مريم نفسها كان إعجازيا “فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ” آل عمران 36، فالآية الكريمة توضح عظمة مريم حتى وهي أنثى وليست ذكرا فهي تقول (إني وضعتها أنثى) وجواب الله هو (والله أعلم بما وضعت) فهي تعلم والله يعلم أنها (أنثى) ولكن علم الله في مريم هو ما جسدته الآية مما لا تعلمه أمها التي وضعتها، وورد فيه نص اصطفاء يجعل مريم الأفضل سواء أكانت ذكرا أم أنثى.
ثم يستمر الإعجاز الرباني في مريم: “فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ” آل عمران 37، وهنا دعا زكريا ربه أن يرزقه بيحيى وواضح أن ذلك كان لسد فجوة تنهي مرحلة انقطاع في ذرية عمران التي هي من ذرية يعقوب قبل بعث المسيح عليه السلام، ليكون هو الخاتم الذي يدخره الله لإصلاح كلي لخلافته في الأرض وعلى دين محمد صلى الله عليه وسلم عندما يحل وقت عودته إلى الأرض من السماء.
هنا يحل الدور على (الفرع الإبراهيمي) الثاني متمثلا بإسماعيل عليه وعلى جميع الأنبياء الصلاة والسلام، فهو تجسيد إعجازي لإرادة الله بعمارة بيته العتيق الأول والمبارك والحرام الذي ببكة والذي كان قد هُجر من الناس كليا فكانت بلدته واديا غير ذي زرع عند انهدام للكعبة وانعدام للناس.
فإبراهيم منفذا أمر الله وقضائه أرسل زوجته إلى هناك وهو أخبرها بعد إلحاح أن الله أمره بهذا فالمكان موحش مقفر ومن غير أي حس لبشر غيرها ووليدها
ولهذا رأينا معجزة زمزم يتفجر ولا يقيم أود الطفل الرضيع وأمه فقط ولكن يأتيهما بالناس العابرين ليستقروا بأمر الله عند أشرف مكان على وجه الأرض.
فهو المكان الذي وضع فيه الله أول بيت للناس وجعله مباركا وهو ما كان (أمر القرى) التي ولدت كل مجتمعات البشر خرجوا منها من أبيهم آدم إلى كل الأصقاع وإليه يعودون (في الحج) ليتطهروا ويعبدوا الله ويطوفوا ببيت أبيهم الأول ويسعوا فيفهموا أن الرزق (زمزم) مقدر من الله ولو من صخر أسود ثم يقفون من غير تمايز ولا تنابز على الصعيد الذي التقى فيه أبوهم وأمهم في مشهد يعلمهم معنى الربوبية لله الواحد ومعنى الثواب والعقاب والحساب.
فكان ذلك (وضع إسماعيل وأمه) في مكة هو التمهيد لرسالة الختام ليحمي الله بيته كقبلة فليس من بديل عنها إلا كامتحان (القدس) وبمسجدها المبارك حوله، ليكون دوره بمثابة جرس إنذار للأمة الختامية “كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ” آل عمران 110، لتكمتل الرسالة وتتصدى وتقاوم وتنتصر ثم يتم إيصالها إلى كل بني آدم.
هنا دعا إبراهيم ربه لهذا المكان العظيم دعاء لم يتكرر مثيل له في القرآن فقال: “رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ” إبراهيم 37، أما المذهل فهو دعاء إبراهيم ضد الأصنام قبل أن تستحدث: “وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ* رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ” إبراهيم 35-36، لينبؤنا دعاء إبراهيم بأنها مسألة (ختامية) كليا ففي نهاية دعائه ترد عبارة (يوم يقوم الحساب) فتكون مكة محمية حتى وهي تعبد الله عبر الأصنام!
وتبلغنا بهذا سورة الفيل عن الطير الأبابيل التي أرسلت لنجدة مشركين لله بالحجر ضد مشركين لله بالبشر فيما يعد أسوأ نذير لمن يعظم بشرا غير الله، فيستمر الدعاء “رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِن شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء” إبراهيم 38، ثم يكمل “الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء* رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء” إبراهيم 39-40، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام والبركات لا يدعو الله فقط بما يريد أن يكون بل يقرن الدعاء إلى الله بالدعاء أن يتقبل الدعاء!
فهكذا يكون الختام بالدعاء: “رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ” إبراهيم 41، فهي إرادة لله تمهد عبر هفو القلوب إلى مكة وعبر عمارة البيت العتيق “وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربّنا تقبل منّا إنك أنت السميع العليم” البقرة 127 – تمهد – لمجيء نبي الختام.
فهو نبي يوجز بشكل كلي كل الرسالات ويصوغها فيما يريده الله للبشر بعد أن يقطع وحيه عنهم، دونما أي حاجة لمن يكمل الرسالة بعده، فأي رسالة ستكون من غير مرسل (الله) ورسول (جبريل) ومتلقٍّ (رسول يتم بعثه) طالما أن الوحي قطع، والرسول مُنع والنبي الأخير مات، والقرآن ينبئ بكل شيء!؟
ولهذا قطع الله النبي صلى الله عليه وسلم من أي ذرية فلا نسل له من الذكور لانتفاء الحاجة، فيعوضه الله عن هذا بأن جعله السراج المنير، بل والأولى بالمؤمنين من أنفسهم، بل وأكثر فالعوض لنسائه معه بأن جعل كل مؤمن بالإسلام ابنا لهن مما يسد كل تأويل في أن فلانا ابن النبي أو ابنهن، فالنبي مُنح ما هو فوق الأبوة وهي (الأولوية على النفس) يقول تعالى: “النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا” الأحزاب 6.
ولكن الله يعرف ضلال التأويل والكذب على الله والنبي وأن أهل الشرك والحيد عن الطريق القويم سيواصلون النبش بأي صلة بالنبي لأغراض شركهم ولذلك قطع الله سبحانه بآية كريمة ليس فيها أي لبس بأن النبي ليس أبا لأي أحد من المسلمين وإنما هو رسوله ونبيه صاحب مهمة لكل البشر صلى الله عليه وسلم، وفعل الله ذلك من دون أن يستثني النبي من إعجاز المولد فهو نتاج أب وقعت وعد أباه الله بافتدائه (ذبحه) فلما منحته العرافة حلا بالاقتراع بينه بينه وبين الإبل أعيدت القرعة عشر مرات لتقع على مئة من الإبل تم افتداؤه بها وحتى لا يكون رمزا أماته الله بعد ولادة النبي ببرهة يسيرة حتى لا ينجب غير محمد صلى الله عليه وسلم وحتى لا يتزوج غير أمه فيكون للنبي أخوة من الأب يطمع منهم أو من ذراريهم من يطمع وفعل كذلك مع أمه التي ماتت هي الأخرى وهي صغير بعد ومن دون أن يتاح لها عيش أطول كي لا تتزوج غير أبيه، فيكون للنبي أخوة من الأم يكون منهم نفس الطمع والبحث عن ممايزة باسم (ذرية) لم تعد هناك أي حاجة لها لأن الله أراد وقضى بختم الرسالات إلى الأرض عبر دين كامل شامل في غير حاجة لا للحذف ولا الإضافة كما السابق.
ولهذا قال الله في كتابه الكريم: “مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا” الأحزاب 40، وهو لم يقل (والد) فهذه واضحة دون قول فالنبي لم يعش له ولد ومات صغيرا وحزن عليه ولكن استخدم لفظ (أب) حتى يكون النفي إجماليا وقاطعا لكل تأويل بكون أي من الناس (ابن) النبي.
وهذه الآية (السالفة) هي الوحيدة في القرآن الكريم التي يرد فيها اسم النبي محمد صلى الله عليه وسلم وصفته كرسول وصفته كنبي معا، والآية تستخدم ما النافية (ما كان) وهي تفيد الماضي والاستمرارية أيضا، ثم استخدم الله اسم النبي (محمد) على قلة وروده في القرآن (4 مرات فقط)، حتى لا يكون أي تأويل للآية فهي تقصد محمد وبالاسم!.. ليكون النفي تاما باتا لأبوة (محمد) لأي من الرجال، وما كان أبا (أحد).. أي نهائيا، فـ (أحد) عند النفي تستخدم لتأكيد العدم.. ولم تكتف الآية بنفي أبوة النبي لأي أحد.. لا.. فالله يعلم أن الإنسان كفور وعنيد وجهول وفاجر، فأردف النفي بـ (ولكن) وهي تستخدم للاستدراك الهادف لتوضيح بتي لا جدال فيه وهو أن (محمد) رسول الله مع عطف آخر إجلائي وتقريري بأنه خاتم النبيين.
وكلمة النبي في القرآن ترد دائما عند الشأن المتصل بشخص النبي كإنسان وعلاقته بمن حوله مثل قوله تعالى: يا نساء النبي وليس يا نساء الرسول، ذلك أن معنى خاتم تفيد نهاية ذرية النبوة (التي بعضها من بعض حتى النهاية) وعدم الحاجة لوجود وريث يكمل الرسالة (كما في حالة زكريا مثلا) لأنها ستتم وتكتمل كما قال الله تعالى عند اكتمالها: “حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ” المائدة 3، ويأس الكفر معناه أن الإسلام سينتصر.. لماذا؟.. لأن الدين اكتمل واستوى وتم تماما ولا يحتاج لأن يكمله ابن نبي أو إمام أو مرشد أو ذرية، فهو الدين الكامل، فلم يعد في حاجة لمصحح ولا لموضح.. بل ولا حتى لشارح للآيات إلا في نطاق ما يتصل بإجلاء ما يلتبس على العامة ويفتح الله به أو ما يستجد من تطور الخلافة في الأرض أو ظهور إعجاز يتطابق مع المنحى القرآني، فهنا المثال الماثل كما في الآية ينفي صفة الأبوة عن محمد وأنه رسول الله وهذا أعظم ما يخصه، ثم إنه أعطاه صفة النبوة ليكون واضحا أنه نبي خاتم لن تكون له ذرية لعدم الحاجة فمحمد نبي ورسول وليس شيخ عشيرة يتباهي بكثرة الأنجال بل بكثرة (الآل) من أتباع دينه يباهي فيهم يوم القيامة، عليه منا أصدق الصلاة وأتم التسليم لا نبي أو رسول أو وحي بعده ولا أحد مثله ولا يدانيه في مرتبته عند الله أحد أدى الأمانة وبلّغ رسالة ربه، لا يزيغ عنها إلا ضال وهالك.. ألا لعنة الله على الفرس المجوس وعلى غبائهم وزللهم وضلالهم، وعافانا الله مما ابتلاهم.
بقلم/ يوسف علاونة


أضف تعليق