أقلامهم

ناصر المطيري: إلحاق الدين بالسياسة هو أمر يفاقم الحروب المذهبية التي لم تنقطع ذكرياتها على امتداد القرون.

خارج التغطية 
الفقيه والسلطان 
ناصر المطيري
من أكثر القضايا المثيرة للجدل الفكري في زمن الفتنة الذي نعيشه في هذه المرحلة من تاريخنا العربي الإسلامي هو اشكالية العلاقة بين ما هو ديني وما هو سياسي، وما يستتبع ذلك من جدلية العلاقة بين رجال الدين ورجال السلطة في الحكم، وما يثور حول ذلك من شبهات وجدل، وحول ذلك تتشعب أراء المفكرين والسياسيين وحججهم في توجهات مختلفة تصل لحد التنافر والخصومة والاتهام.
وشاءت الصدفة أن يقع بين يدي كتاب جذبني عنوانه يتطرق لقضية الدين والسياسة من زوايا تاريخية مهمة وتستحق التوقف والتفكر، الكتاب عنوانه: «الفقيه والسلطان، جدل الدين والسياسة في ايران الصفوية القاجارية والدولة العثمانية»، الصادر عن «دار الطليعة»، لمؤلفه اللبناني وجيه كوثراني.
وينطلق المؤلف من تجربتين سلطويتين انحكم بهما التاريخ العربي والاسلامي منذ العصور الاسلامية الاولى اي الحكم الأموي مرورا بالحكم العباسي والدولة العثمانية ثم الدولة الصفوية في بلاد فارس. وهو شأن يطال المذهبين الرئيسيين في الاسلام، السنّي والشيعي. اذا كانت العلاقة بينهما اتسمت تاريخيا بالتوتر والصراعات على السلطة، الا ان ميدانا محددا كان يجمعهما يقوم على العلاقة بين السلطان او الإمام من جهة والفقيه أو العالم من جهة اخرى، وهي علاقة يحكمها السعي الدائم لوضع كل مجال سياسي وديني تحت سلطة الآخر. وقد تكوّن على امتداد التاريخ الاسلامي فقهاء نظّروا لهذه الجهة أو تلك واطلقوا فتاوى في شأن العلاقة بين الدين والسياسة لا يزال العالم العربي والاسلامي يئن من وطأة آثارها السلبية.
يقول وجيه كوثراني مؤلف كتاب « الفقيه والسلطان « : إن منطق قيام الدولة العثمانية على الغلبة والقهر لم يكن يسمح للفصل بين الدين والسياسة بمقدار ما كان يستوجب توظيف الدين في خدمة نظام الغلبة هذا. لذا كان على الدولة العثمانية ايجاد قوانين واجهزة ومؤسسات تتيح لها استيعاب العلماء والفقهاء في هذه المؤسسات بما يؤمّن حسن الرقابة والسيطرة على الفكر. وهو أمر نجحت فيه الدولة العثمانية بأن جعلت المؤسسة الدينية تقوم بحماية الاستبداد السلطاني، «وصولا الى تأسيس قطاع من الاستبداد الديني في الدولة والمجتمع، وهو قطاع وصل الى حد استخدام الدين في السياسة المدنية وفي التحكم بلعبة البلاط، وفي لجم حركة الفكر والرأي والاجتهاد في المجتمع» والكلام للمؤلف، ويضيف أيضا:
لا تختلف الدولة الصفوية القائمة على المذهب الشيعي كثيرا عن خصوصيات الدولة السنية لجهة العلاقة بالمؤسسة الدينية، فشاهات الأسرة الصفوية كانو يهدفون قبل كل شيء الى اقامة دولة مركزية قادرة على توحيد الداخل ومقاومة ضغوط الخارج. ومن أجل ذلك كان لا بد من نظام ملكي مطلق انما مسيّج بمؤسسة دينية تعمل في خدمته. لذا عمل الصفويون على تسريع عملية التشيع في ايران، ساعدتهم في نجاحها سلسلة ممارسات ومظاهر قامت على الترهيب والترغيب، واستخدمت شعائر ورمزيات لبعض المقامات المقدسة.
ويستطرد (كوثراني) في كتابه قائلا: وسارت الأسرة القاجارية على مثال سابقتها الصفوية من حيث احتواء العلماء والفقهاء في اطار مؤسسات، وتقديم كل وسائل الترغيب لهم. لكن الوقائع التاريخية تبرز التناقض الذي ظل قائما بين المؤسستين، بما فيه عجز الشاهات عن تطويع المؤسسة الدينية بالكامل من دون أن يعني انها فقدت شيئا من التأثير عليها، 
ويخلص المؤلف إلى أن التجربة التاريخية للحكمين السني والشيعي على السواء تؤكد أن من الصعب المحافظة على استقلال المؤسسة الدينية عن السياسة، بل إن المنحى الذي غلب ولا يزال يتصاعد اليوم هو في إلحاق الدين بالسياسة وتوظيفه في الصراعات السياسية والاجتماعية على أيدي جميع الأطراف على السواء، وهو أمر يفاقم الحروب المذهبية التي لم تنقطع ذكرياتها على امتداد القرون السابقة .