آراؤهم

الفتوحات الإسلامية في الميزان

ما أحسن قول الكاتب والمفكر الاسلامي محمد عمارة في مقدمة كتابه (الإسلام والتحديات المعاصرة) إذ قال : في مواجهة التحديات، أقام المسلمون الدين وبنوا الدولة وأبدعوا الحضارة وسطروا أمجد صفحات التاريخ، إن التاريخ الإسلامي هو الصورة العملية لتطبيق تعاليم الإسلام، لذا حرص المستشرقين على تشويهه تشويها يجعل الفرد المسلم المطلع على مصنفاتهم يمقت تاريخه مقتا عظيما، لذا علينا كمسلمين أن نعرف تاريخنا من تراثنا ومصادرنا لا مصادر أعدائنا الذين كفروا بنبينا قبل أن يكفروا بجمال تاريخنا.

لست من الرافضين لكل ما جاء به المستشرقين فمنهم من أنصف وشهد بالحق ونقل الوقائع كما هي لا كما يريدها هو، ومنهم جوستاف لوبون صاحب كتاب (حضارة العرب) وويل ديورانت صاحب كتاب (قصة الحضارة) وزينغرد هونكه صاحبة كتاب (شمس العرب تسطع على الغرب) هؤلاء من القلة الذين أنصفوا الحضارة الاسلامية وإن كنا لا نسلم بكل ما ذكروه، وإلى جانب هؤلاء المنصفين جمع كبير من المجحفين المغالين ببغضهم للحضارة الاسلامية وفي مقدمتهم توماس آرنولد ومرجيلوث وبرنارد لويس، لكن نسطيع القول وبكل ثقه أن حتى الذين أجحفوا في تاريخ الاسلام فقد كانوا متميزين في سردهم للوقائع التاريخية وتحليلاتهم الغير مسبوقه في مصنفاتهم التاريخية والأدبية، وإن كانت غايتهم كما هو واضح النيل من الحضارة الاسلامية التي لا شك هي الحضارة الوحيدة التي توازي عظمة الحضارة الغربية بل وقد كان لها فضل ملموس ومذكور في نهضة الحضارة الغربية التي إنتفع منها الغرب غاية النفع إبان نهضتهم العظيمة التي ما زالت هي المسيطرة على العالم أجمع.

من المؤسف والمحزن أن بعض الإعلاميين اليوم ينقلون من كتب المستشرقين شبهات تسييء للحضارة الاسلامية العريقة، مع عدم ذكر أسماء الكتب التي نقلوا منها هذه الأطروحات الغريبة عن تاريخ الاسلام، وربما ينقل منهم من كتب بعض الكُتاب العرب الذين تأثروا بما دونه المستشرقين وأخص منهم الأديبين الكبيرين طه حسين وأحمد أمين، فقد كانا هذين العلمان على جلالة قدرهما ينقلان آراء المستشرقين من غير تحقيق ولا تدقيق، أو إيمانا بما تحويه مصنفات المستشرقين

وإن كان التاريخ الاسلامي تعرض لمحاولات التشويه فإن الفتوحات الاسلامية التي بلغت مشارق الأرض ومغاربها كان لها النصيب الأكبر من هذه الحرب الفكرية العارمة ضد حضارتنا وتراثنا، فقد كانت حركة الفتوح عبارة عن حرب شنها المسلمين على كل من وقف في أمامهم عندما قاموا بنشر الإسلام في العالم، أو رفضوا الخضوع لدولة الاسلام وأداء الجزية للمسلمين، ولا ندعي أن حركة الفتوحات كانت أشبه بحركة ملائكية خالية من الزلل، إنما هي حركة بشرية قام بها أناس مجتهدون آمنوا بهذه الدعوة الربانية أشد الإيمان وأرادوا تصديرها للعالم لإنقاذه من ظلام دامس كان قد خيم على الناس لقرون عديدة وقد لخص المجاهد الكبير ربعي بن عامر رسالة الجهاد الاسلامي عندما قال لرستم قائد الفرس حين سأله ما الذي جاء بكم فقال: لقد ابتعثنا اللهُ لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة. وكذلك ما قاله المجاهد الكبير عقبة بن نافع فاتح شمال أفريقيا عندما توغل في المغرب العربي يفتح المدن مدينة مدينة ويخضع القبائل البربرية الشرسة قبيلة قبيلة وقد واجهه من المخاطر والصعاب الشيء الكثير، حتى تم له فتح طنجة سنة ٦٣هـ آخر مدينة مغاربية وقد وصل هذا المجاهد البحر بفرسه وقال: اللهم اشهد أني قد بلغت المجهود، ولولا هذا البحر لمضيت أقاتل من كفر بك حتي لا يعبد أحد من دونك. هذه النماذج وغيرها كثير في التراث العربي والإسلامي تدل على أن هؤلاء الفاتحين جاؤوا إلى هذه البلدان البعيدة، والغريبة عن ثقافتهم وعاداتهم، أنهم كانوا أصحاب مبدأ وإيمان عميق بالدعوة التي كانوا يؤمنون بها ألا وهي عقيدة الاسلام الخالدة، وليس كما أدعى توماس آرنولد الذي لا يخفي تهجمه على حركة الفتوحات الإسلامية في كتابه (الخلافة) إذ قال: قد اتضح أنَّ أثر المصالح الدينية كان ضئيلا في وعي هذه الجيوش العربية الفاتحة التي اكتسحت سورية وفلسطين والعراق وفارس إذ لم يكن هذا التوسُّع للعرق العربي سوى هجرة شعب نشيط قوي ساقه الجوع والحاجة إلى مغادرة صحاريه القاحلة التي أجدبت بازدياد جفافها والحاجة فطغى على أغنى البلاد المجاورة له وأكثرها ثروة وغنى.

صحيح أن الفتوحات العربية الاسلامية صاحبها إراقة للدماء ودمار لبعض المدن ، كما ألحقت هذه الحروب بسكان المناطق المفتوحة الضرر، وأنزلت بهم الكوارث والمحن، وكل منصف يعرف أن هذه نتيجة طبيعية للحروب في مختلف العصور مهما اختلفت أسبابها وأهدافها، وقد اضطر المسلمون للحرب كما بين علماء التاريخ، بسبب وقوف أعدائهم أمامهم في نشر الدعوة أولاً، ورغبة في الفتح ثانيًا، لذا وصف المسلمون على دخولهم كل بلد سواء كان حربا أم صلحا ( بالفتح ) موافقاً لقوله تعالى : ( إذا جاء نصر الله والفتح ) ولم يقال قط عن هذه الفتوحات أنها همجية قمعية، بل ذكرها المؤرخ الفرنسي جوستاف لوبون بقوله: لم يعرف التاريخ أرحم وأعدل من الفتح العربي. وينبغي القول إنه لا مجال لمقارنة الفتوحات الإسلامية وما صاحبها من أخلاق عظيمة للفاتحين بالإجتياح المغولي، واستعمار الدول الإمبريالية إذ عمل المغول على إبادة الناس وحرق المدن، بينما عملت الدولة الغربية على سلب دولة الاسلام روحيًا وماديًّا، ونهبوا خيرات البلاد الغنية، وسعوا إلى محو الثقافة واللغات المحلية، مثل ما حدث في شمال افريقيا والهند ووسط آسيا، وأحلوا محل ثقافة الشعوب المكلومة، ثقافتهم ولغتهم لبسط السيطرة التامة، أما المسلمون -كما هو معروف فقد أضحت كل المناطق التي وقعت في حكمهم حواضرا ومراكز ثقافية وعلمية كبلاد ماوراء النهر والهند والاندلس فضلا عن بغداد ودمشق والقاهرة، كما ساعد الإسلام على توحيد البلدان والشعوب تحت راية واحدة، وتطوير العلاقات التجارية بين مشارق الارض ومغاربها، وأبطلوا نظام الطبقات القديم وإمتلاك الأراضي الواسعة ونجحوا في طمس الكثير من العادات الاجتماعية القبيحة التي كانت سائدة قبل العهد الاسلامي، وبفضل الإسلام انتشرت الأخلاق الحميدة بين الناس وأقبلوا عليه طوعًا بلا إكراه، ودائما ما يلجأ المغرضين إلى مصنفات المستشرقين للنيل من الحضارة الإسلامية العريقة.

وفي الختام أقول إن الحضارة الاسلامية وفتوحاتها إنتاج بشري بحت وإن كان تحمل مبادئ الوحي المعصومة إلا أن هذه المبادئ الراقية، طبقت على أيدي بشر لهم تصوراتهم ومصالحهم التي قدمت أحيانا على المبادئ، ويجب علينا نحن ورثة هذا التراث العريق التفريق بين دين الاسلام المعصوم، وبين أفعال المسلمين عبر التاريخ

نادر بن وثير