كتاب سبر

الثورة في القفص

كانت محاكمة مبارك هي الفصل الأخير في مسرحية الفترة الانتقالية، وتجميد الثورة وتفريغها، وظن المجلس العسكري وقادة الثورة المضادة أنهم بهذا يضعون نقطة النهاية في عمر الثورة بعد عام ونصف من المآسي التي عشناها من ماسبيرو إلى قصر العيني إلى محمد محمود إلى بور سعيد، لكن الثورة التي لا زالت موجودة في قلوب الناس رفضت هذا. 
جاء الحكم، ليوضح كيف ينظر النظام السابق، والمجلس العسكري، ومؤسساته القضائية إلى الثورة، وكأنها هي المتهم، وكأن الشعب المصري هو المدان، بعد أن نفى المستشار أحمد رفعت وجود دليل على أن قوات الشرطة هي التي قتلت المتظاهرين، وكأنه لم يفتح التليفزيون لكي يعرف حجم الجرائم التي ارتكبها النظام السابق وداخليته ضد المتظاهرين من يوم 25 يناير مرورا بجمعة الغضب، وانتهاء بموقعة الجمل. 
وعلى الرغم من الحكم الذى صدر فى حق الرئيس المخلوع حسنى مبارك بالمؤبد فى قضية قتل المتظاهرين، والحكم الذى صدر على وزير داخليته حبيب العادلى بالمؤبد أيضا فى قضية قتل المتظاهرين، وبراءة عصابة الداخلية أحمد رمزى وعدلى فايد وحسن عبد الرحمن وإسماعيل الشاعر وأسامة المراسى وعمر فرماوى، وبراءة حسين سالم، وبراءة علاء وجمال مبارك، وعلى الرغم من الإحساس الذي صدره لنا الحكم بأن الثورة لم تقم ضد نظام مستبد فاسد وقاتل، وكأن لم يسقط آلاف الشهداء والمصابين فى ميدان التحرير وميادين مصر.. بعد أن خرجت الملايين رافعة شعار «حرية عدالة كرامة إنسانية، وكأن رصاصة واحدة لم تُطلَق على المتظاهرين، فإن الثورة مستمرة، والدليل هو المشهد في ميدان التحرير الذي شهد حشدا يذكر بال18 يوما الأولى في الميدان
جاءت الأحكام صادمة وكأن سيارات الإسعاف لم يتم استخدامها فى نقل الأسلحة والخرطوش والقنابل المسيلة للدموع من مخازن وزارة الداخلية والأمن المركزى إلى الميادينـ وكأن الاتصالات لم تُقطَع عن البلاد.. ولم تُعزَل مصر عن العالم بأوامر من مبارك وأفراد عصابته، وكأن مبارك وعصابته فى وزارة الداخلية كانوا يسهرون على أمن الناس.. لا على أمنهم الشخصى، وكأن رجال الأعمال، وعلى رأسهم حسين سالم، الذى هرّب 450 مليون يورو يوم 29 يناير 2011 على طائرته الخاصة إلى أبو ظبى، لم ينهبوا البلاد وأرضها ويهرّبوا أموالها برعاية مبارك وعائلته، وكأن الـ18 يوما وما جرى فيها من أحداث الثورة.. لم تحدث، وكأن تحليق طائرات الـF16 فى سماء ميدان التحرير بشكل منخفض جدا لإرعاب وترهيب المتظاهرين السلميين يوم 29 يناير 2011 لم يحدث بأوامر من مبارك وعصابته، وكأن هجوم البلطجية برعاية مؤسسات الدولة وداخلية محمود وجدى ووزارة أحمد شفيق ومجلس شعب فتحى سرور ومجلس شورى صفوت الشريف وأمانة سياسات جمال مبارك ورجال أعمال مبارك يوم موقعة الجمل، بمشاركة عناصر أمنية من وزارة الداخلية لم يحدث!
 
وبالطبع الكاميرات الموجودة على أسطح المتحف المصرى والتليفزيون المصرى ووزارة الداخلية نفسها والجامعة الأمريكية ومجمع التحرير.. لم تسجل أى شىء من الأحداث.. وظهر القناصة الذين كانوا يصطادون الشهداء كالفئران.. خصوصا أن أفلام هذه الكاميرات اختفت بقدرة قادر لدى الأجهزة السيادية.. التى أدلى المسؤولون عنها بشهادتهم فى القضية كشاهد ماشافش حاجة، على الرغم من تعظيمهم جميعا للثورة التى خرج فيها الناس ضد مبارك، على الرغم من كل هذا، فإن التاريخ سيسجل لمبارك أنه كان الديكتاتور والمستبد الذى أفسد البلاد مع عصابته الذين أُطلِقَ سراحهم أو مُطلَقى السراح فى الأصل، وأنه الذى رعى التعذيب الممنهج فى السجون، وأنه الذى ساعد رجال الأعمال فى نهب مصر، وأنه الرجل الدنىء الذى كان يحصل على هدايا من مسؤولين للإبقاء عليهم لسرقة المؤسسات التى يرأسونها، وأنه وأبناءه وعصابته رعاة الفساد فى البلاد، وأنه قاتل، وأن عصابته فى الداخلية قتلة، وأن شهداء قد سقطوا بأسلحة وخرطوش نظام مبارك وعصابته فى الداخلية.
إن الحكم الصادم، بقدر ما صدم المصريين، بقدر ما أيقظ الثورة داخلهم مرة أخرى، بل كان يوم الحكم هو اليوم ال 19 في الثورة المصرية.

أضف تعليق

أضغط هنا لإضافة تعليق

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.