آراؤهم

أمة الظلام .. ولا أظنكم تبصرون

“من أدام العيش في الظلام استصعب بصره النور، ومن أطال القعود شقّ عليه القيام، ومن أطال الذّلة استثقل العزة”

لا يستطيع أكثر المفكرين المعاصرين تعصباً ونرجسية أن ينكر حقيقة أن الأفق المعاصر للوعي هو أفق غربي بامتياز، وأن الغرب كان ولا يزال هو مصدر النظريات المعرفية المعتمدة، وصانع الأسئلة والاجابات الكبرى ومقرر مسارات المعاصرة، بينما العالم الاسلامي مبتعداً كل البعد عن المساهمة في دفع المسيرة البشرية على طريق التطوير والإثراء في مجالات الحياة الإنسانية المختلفة.

هذا العالم الغربي الذي يمثل الاستنارة في أبهى صورها الممكنة التي صنعها العقل في رحلته الممتدة لأكثر من أربعة قرون، لم يخرج العقل المستنير من فراغ ولم يُخلق هكذا ابتداء، وإنما خرج من رحم الظلام متوقدا بصراعه مع قوى الظلام، وإلى اليوم نسمع على امتداد العالم الإسلامي من يقول لا تقرأ هذا الكتاب فهو حرام ولا تشاهد هذا الفيلم فهو حرام ولا تتابع هذا المسلسل فهو حرام ولا… فهو حرام ! مما يعني أننا لم نخرج بعد من القرون الوسطى وأننا لا نزال إلى اليوم نعيش في القرن الخامس عشر الميلادي.

  • اهل الكهف..

مجموعة من البشر محبوسون في كهف ومكبلون بقيود أمام حائط الكهف ووراءهم ضوء خافت فلا يرون إلا ظلالهم على الحائط، وإذا تحرك شيء خلفهم أو إذا تكلم أحد يعيد الحائط صدى الصوت فيبدو وكأن الظلال تتكلم إليهم، القيود تمنع أصحاب الكهف من أن يحركوا رؤوسهم فلا يرون من العالم إلا ما يمليه عليهم الحائط الذى أمامهم.

والسؤال هو ماذا سيحدث لو أن أصحاب الكهف تمكنوا من فك قيودهم واستداروا ؟

حينها سيبهرهم الضوء ولن يروا الأشياء بوضوح لأنهم اعتادوا على لغة الظل وستكون النتيجة أنهم سيعودون إلى الحائط طائعين ويواصلون مراقبة الظل كي يفهموا ما يدور حولهم.

  • فُتح الكهف عنوة..

ماذا سيحدث لو فتح الكهف عنوة وتحرر أحد أصحابه وخرج للنور ؟ في البداية سيخاف من الشمس وسيحمي نفسه من نورها، ولكنه مع الوقت سيعتاد عليها وعلى رؤية الأشياء كما هي، ولو عاد للكهف مرة أخرى ليشرح لإخوته أن العالم شيء آخر غير الظلال التي يرونها على الحائط لن يصدقه أحد، بل سيتهمونه بأن عينه أصابها العمى وقد ينتهى بهم المطاف إلى أن يقتلوه لأنه يعكر عليهم صفو عزلتهم ويشكك في عظمة كهفهم، من الآن فصاعدا سيقتلون كل من يحاول أن ينزع عنهم قيودهم ويأخذهم إلى النور.

  • تلميحات..

–          المرحلة الاولى تُعبر عن الواقع القائم، فالناس عبيد لحواسهم المباشرة ومايدركونه من صور وأصوات ليس الا زيف وخداع وأشياء زائلة و لا تعكس الحقيقة.

–         المرحلة الثانية تمثل أول مراحل الادراك، وهذه العملية مؤلمة وفيها يدرك الانسان حقائق أعمق ويضحي بالصور المباشرة التي تقدمها له حواسه مقابل تفسير اعمق واشمل تمثل مرحلة اكتساب العلوم الطبيعية التجريبية.

–          المرحلة الثالثة تمثل ثاني مراحل الادراك وفيها يتعرف الانسان على أصل الاشياء وعلى الافكار الحقيقية الصحيحة خلف المظاهر المختلفة وهذا يمثل علم الرياضيات والفنون.

–          المرحلة الرابعة تمثل المرحلة النهائية للأدراك البشري وفيها يدرك الانسان الحقيقة الاساسية التي هي وراء كل الحقائق الاخرى.

–         المرحلة الخامسة تمثل الالتزام الاخلاقي بتوعية الناس وتنويرهم حتى وان كان ذلك يمثل خطورة عليه .. وان ارادوا قتله.

  • الخوف من الحرية..

الإنسان بطبيعته لا يسعى للمعرفة والحرية في المقام الأول بل للأمان. وهو يجد هذا الأمان في الدين والقبيلة وما تعارف عليه من حوله أنه الحقيقة، والقليلون جداً هم من يجرؤون على نزع القيود عن أنفسهم وعن عقولهم لأن ذلك يجعلهم يتخذون قراراتهم بأنفسهم ويتحملون عواقبها، الحرية قد تؤدى الوحدة والعزلة لذلك يخافها الكثيرون ويفضلون حياة الكهوف، وحياة الكهوف تولد تعظيم الذات كما تولد والشك والقلق من كل ما هو غريب أو جديد وهذا هو حالنا اليوم في معظم البلدان الإسلامية، نختبئ في كهوف الماضي وننظر إلى كل نقد خارجي على أنه إعلان حرب ولكل نقد داخلي على أنه خيانة أو كفر. وكلما كان المجتمع مغلقاً زادت نظرته إلى العالم الخارجي ككيان عدائي وزاد الضغط على أبناء المجتمع ليظهروا ولاءهم له وتضامنهم معه. ولو عاد أحد أبناء الكهف من الخارج ليفتح عيون اخوته إلى النور اتهموه بالعمالة للغرب وببيع قضايا بلاده، هكذا يتم وأد أفكار التحرر في المهد لأن الجميع مشغولون بكراهية العدو الخارجي وكلما زاد تأثير العالم الخارجي على أصحاب الكهف زاد ضغطهم على بعضهم، فتنتشر ثقافة المراقبة وثقافة الصمت.

  • زنا المحارم..

كل ذلك يؤدى إلى حالة حيث تسيطر الأحادية والتعصب على الفكر. والمعروف عن زنا المحارم أنه ينتج أطفالا مشوهين ومرضى، وقد خاطر الكثيرون بحياتهم حين حاولوا كسر هذه الحالة من العزلة الحضارية والفكرية في بلادنا، وهنالك مصلحين كثر ممن غادروا الكهف ثائرين عادوا إليه مرة أخرى طائعين ولبسوا الأغلال بأنفسهم وبدأوا في النظر إلى ظلالهم، ثم أطلقوا على ذلك “توبة” !

  • جاء الاوروبي..

عاش المسلمون لقرون طويلة في عزلة عن باقي العالم لا يرون إلا ظلهم على الحائط، ومع ذلك فقد كانوا يعتقدون أنهم خير أمة أخرجت للناس، حتى جاء الاوروبي المتفوق عليهم علمياً ففتح كهفهم عنوة وواجههم بحقيقة العصر الحديث، لقد كان لقاءاً غير متكافئ.

لم يكن مجيء الأوروبي الغازي كقُبلة الأمير للجميلة النائمة التي أيقظتها من سباتها الطويل، ولكنه كان ركلة في مؤخرتها أثارت غضبها فشرعت في الصراخ وظلت جميلة الجميلات تصرخ وتصرخ حتى يومنا هذا، ومن ناحية أخرى كان مجيء الاوروبي دائما يذكر الإصلاحيين في بلادنا بضرورة التغيير ويذكر الأصوليين بضرورة التزّمت ومقاومة التجديد، وبذلك تكون المحصلة في النهاية صفر أو تحت الصفر، الأصوليون ينتصرون في النهاية لأنهم ليسوا بحاجة لإقناع غالبية الناس بوجهة نظرهم فهم يستخدمون اللغة التي لا يفهمها أحد ويصدقها الجميع.

مجيء الآخر كان دائما يستفز بعض المسلمين لمغادرة الكهف، ولكنه كان يستفز معظمهم للتشبث بالمغارة وظلالها. كان شعورهم بالضعف يولد الخجل، والخجل يولد الخوف، والخوف يقوى التمسك بالموروثات، وهكذا تتحول حالة الطوارئ وقلة الحيلة إلى رسالة سامية وعمل نبيل.

رجل يراقب مجموعة من الناس من خلال ثقب مفتاح أحد الأبواب وطالما كان يراقب الآخرين لم يكن يشعر أنه يرتكب خطأ، ولكن حينما جاء شخص آخر من خلفه وأمسك به متلبساً بفعلته أحس بذاته وشعر بالخجل، وقد أمسك بنا الأوروبيون ونحن متلبسون بالتخلف فتشنجنا ولم نقو على الاعتراف بالحقيقة، الآخرون دائماً هم الذين يولدون شعورنا بالخزي، كان المسلمون يحاولون تعويض عقدة النقص هذه بشعورهم بالتفوق الأخلاقي، في حين أن الأوروبي كافر يأكل ويتمتع كما تتمتع الأنعام. ولا تزال نظرة الغربي تثير غضب العالم الاسلامي، وبدلاً من ان يرى المسلمون أن الأوروبيين بشر مثلهم لهم عيوبهم ومميزاتهم ومخاوفهم وغباؤهم فإنهم يفضلون ان يروه تجسيداً للشر ذاته لا يأت منه خير، فهذه النظرة توفر عليهم التفكير في أخطائهم ومشكلاتهم وتجعلهم يستدفئون بدور الضحية فيجعلون الآخر هو المسؤول الوحيد عن كل إخفاقاتهم وكوارثهم.

  • مشعل الانارة..

الحل في استخدام العقل فعندما يذهب العقل وتتمكن العواطف والانفعالات يبدأ التخبط والتفاعلات المنافية للمنطق والتصرف السليم، وعندما يستطيع العقل أن يفرض صوته ويرفع راياته تبدو الحياة بمفرداتها ذات وجه آخر وصورة جديدة أكثر جمالاً وروعة، فإذا مالت القوة نحو العاطفة حصدنا نتائج وخيمة، وإذا صار العقل أقوى وأقدر جنينا ثمار الحضارة.

وفي عالمنا المعاصر هناك العديد من العقول المستثمرة في التأجيج الانفعالي والتحشيد العاطفي، فترى مجتمعات قد تحولت إلى كتلة عاطفية ملتهبة مما يسكب فيها من موقدات النيران، فمجتمعات الشرق الأوسط تقع ضمن هذه المجتمعات المأسورة بعواطفها والمملوكة من قبل الآخرين الذين يستخدمون عقولهم لتأجيج الوجود العاطفي فيها وجني ثمار مصالحهم وأهدافهم، فما تحقق في بلداننا عبارة عن سعير انفعالي يتم إيقاده بالعوامل اللازمة للحفاظ على دوام استقادته فتحول كل موجود فيه إلى رماد.

فهل ستتحرر المنطقة من أصفاد العواطف والانفعالات؟

وهل ستتمكن من استخدام عقلها ورؤية حاضرها ومستقبلها؟

عبدالله الفرج