فن وثقافة

رواية “أيام الماعز”: كلمة جريئة على نظام الكفالة

تعد رواية “أيام الماعز” الصادرة عن مكتبة آفاق الكويتية من بين الأعمال الأدبية اللافتة التي قدمها معرض الرياض الدولي للكتاب في هذه السنة إلى القراء العرب. وهي ترجمة عربية قام بها سهيل عبد الحكيم الوافي لرواية هندية جريئة مستندة من قصة أليمة حقيقية تكشف عن مخالب نظام الكفالة في دول الخليج المخفية عن عيون الناس والإعلام لتختنق به العمالة الوافدة من مختلف أنحاء العالم خاصة من البلدان الآسوية.
 هذه رواية مشهورة  تم وضعها في المقرر الدراسي بعدد من الجامعات والمدارس الثانوية في الهند، كتبها الأديب الهندي ’دانييال بنيامين‘ من ولاية كيرلا الهندية بعنوان ‘آدوجيفيتام’ (الحياة الماعزية) في لغته المليالمية (Malayalam) وصدر لها حتى الآن خمس وسبعون طبعة في لغتها الأصلية مما جعلها من أكثر الكتب نسخا وتداولا لدى القراء في كيرلا ثم في الهند عموما وخارجها كما يشهده إقبال القراء على ترجمتها الإنجليزية. ورشحت ترجمتها الإنجليزية  Goat Days التي صدرت عن دار النشر Penguin Books لجائزة Man Asian Literary Prize ضمن 14 عملا أدبيا لكبار الكتاب أمثال ‘أوخان باموق’(Orhan Pamuk) ، و‘هيرومي كاواكامي’(Hiromi Kawakami)، ولجائزة DSC Prize for South Asian Literature بقيمة 50000USD  ضمن 15 عشر عملا أدبيا ولجوائز أخرى كثيرة في الهند وخارجها.
 
موضوع الرواية وخلفيتها
وموضوع الرواية كما يكتب المترجم سهيل الوافي على غلاف الكتاب يدور حول عامل بسيط يدعى نجيب باع كل ما يملك وسافر إلى الرياض – السعودية في سبيل البحث عن لقمة العيش واتفق أن وصل إلى مزرعة أغنام في الصحراء المقفرة وعاش هناك غنما غير إنسان لمدة ثلاث سنوات تحت قسوة رب عمل بدوي يضربه حتى على الاستنجاء بالماء. وكان هناك عامل آخر مجهول الهوية حاول الهروب فلم يعثر إلا على عظامه ، قتله رصاص ‘الأرباب’ (رب العمل). هرب نجيب يوما مع صديقين له (هندي وصومالي) في مزرعة مجاورة.. ضلوا الطريق في الصحراء.. رأوا الموت وجها لوجه.. مات الصديق الهندي.. أما نجيب فحمله الصومالي المفتول العضلات على أكتافه كما يحمل المنديل المبتل.. أوصله إلى بر الأمان.. استعاد روحه.. رحّلوه إلى وطنه.. لقي بينيامين كاتب الرواية.. حكى له الحكايات على برائة ولكن بينيامين اكتشف فيها روح رواية مثيرة.. حوّلها إلى أرض الواقع في ثوب رواية متكاملة.
إنها رواية ولكنها ليست خيالا مفتعلا بل هي واقع مر – واقع مئات العمال الوافدين إلى بعض  دول النفط.  يقول الكاتب في ملحق النسخة الأصلية للرواية عن الدافع الذي دفعه إلى الكتابة:
“ذات يوم، لقيت صديقي ‘سُنِلْ’ يخبرني بالصدفة عن رجل يدعى نجيب.. بالنسبة لي، كانت حكاياته حينها مجرد قصة من تلك القصص ‘الخليجية’ الكثيرة التي سبق لي أن أسمعها بألوانها وأشكالها المختلفة.. فطبعا ما أخذتها بعين الاعتبار. ولكن قررت يوما انقياذا لإلحاح صديقي المتواصل أن أقوم بزيارة نجيب.. كان رجلا بسيطا، منقبض الوجه حين أجابني على سؤالي عن تلك التجارب قائلا: “إنها مضت في بعيد الزمان.. وقد نسيتها كلها..” ولكنني لم أزل وراءه ألحّه حتى أخذ يحاكي تلك الحياة بهدوء، وأخذت الأحداث التي كانت تهجع في غياهب النسيان تتراءى نصب عينيه في صورة أرعبتني قساوتها. فيما بعد، تكرر زيارتي له مرارا.. استمعت إليه لساعات.. تمشيت معه في دروب تلك الحياة المنسية أتفحص كل معالمها.. تَبيَّن لي أن جميع القصص التي سبق أن سمعتها كانت سطحية مبهمة بعيدة عن وجه الحياة الواقعي.. ولم أكد أملك بعد ذلك إلا أن أكتب عنها.. ولم أكن في حاجة إلى اختلاق خيال بعيد أو إلى تطريزات تزيد متعة القراءة، لأن حياة نجيب تستأهل القراءة حتى بدونها. وهذه ليس بقصة نجيب بل كانت حياته كالإنسان الماعز”
 
مشكلة الرواية
ومن المعلوم أن العثور على النفط والبترول حقق في الدول الخليجية طفرة كبيرة في مجال الاقتصاد الذي يرتفع بارتفاعه مستوى الحياة الاجتماعي والفردي. وشهدت المنطقة تطورا سريعا في بنيتها التحتية وبيئتها المعمارية فيما حول شعوبها إلى مجتمع يحتاج إلى خدمات الآخرين لقوام حياته، الأمر الذي فتح أبواب المنطقة أمام الباحثين عن مصادر الحياة من الدول الثالثة والفقيرة لينتهزوا الفرص السانحة في أسواق العمل فيها. وكنتيجة متوقعة، تمكنت الرفاهة  من نزع كثير من الأخلاق المحمودة التي عرف العرب بها والتي ورثوها من دينهم الحنيف من المساواة والرحمة والضيافة والإنصاف وما إلى ذلك من الخصال الحميدة فأصبحت تظهر فقط على حسب الجنسيات والمناصب.
وتعتبر أيام الماعز التجربة الأولى في الروايات العربية في شكلها ومضمونها، والكلمة الصريحة إلى الأخ العربي المسلم تدعوه إلى التغير من واقع نمط تفكيره وأسلوب معاملته لأن الكاتب يتجرّأ على نظام الكفالة وينتقد في أسلوب جذاب بعض القضايا الرائجة المتعلقة به. تتمحور الرواية بتمامها حول مأساة قل من التقطها في الرواية العربية الخليجية من خلال عرض نموذج للإنسان الممزق بين الواقع والأحلام، وتسلط الرواية الضوء على رموز العبودية والقسوة في نظام الكفالة، كعدم الحق للعامل في اصطحاب عائلته إلى مقر عمله، واستغلال طاقاته البشرية مقابل أجرة زهيدة، وإجباره على ظروف عمل  هي غاية في السوء، مع الاحتجاز الرمزي لحرية العامل بإخفاء أوراقه الثبوتية وجواز سفره، وعدم سماحه بمغادرة البلاد إلا بتصريح مسبق من الكفيل، ومنع نقل الكفالة، والتأخر عن الراتب وما إلى ذلك. وهذا الموضوع الذي يتناوله الكاتب في الرواية لا نزال نسمع عنه في المجتمعات الخليجية بعد أن كثرت هجرة العمال من مختلف أنحاء العالم، لكنه لم تجسده رواية عربية هذا الجانب المأساوي المهجري.
ولا سبيل إلى الشك في أن المبالغة من خواص الرواية الفنية المتكاملة كما نرى الروائي بنيامين يضخّم الجانب السلبي من نظام الكفالة بينما يبرئ  المترجم ذمته مما رمى به الكاتب نظام الكفالة وعرب الخليج من الانتقادات والتصوير المبالغ فيه، إذ يقول المترجم سهيل عبد الحكيم الوافي في كلمته “هذه الرواية مثل أي رواية من نسج الخيال، ولكنها تمثل الحقيقة في قليل أو كثير، وإذا خيّل إلى أحد أنها تمثّل الحقيقة، فليس إلا لأنها واقع في إطار معرفته، وإذا خيّل إلى آخر إن هذا إلا بهتان عظيم فليس إلا لأنها غير واقع في إطار معرفته. 
وأنا كمترجم لست إلا راويا بريئا رجوتُ أن أنقل إلى أبناء عقيدتي ما يروَّج عنهم لكي يكونوا بالمرصاد، معترفا بجميل عرب الخليج الطويل العريض المتخطي حدود الأديان والأجناس. وأعتقد أني لا أكون مذنبا إذا أشرتُ ونصحتُ والله من وراء القصد”.
وجدير بالذكر هنا أن الهند كانت في مقدمة تلك البلاد التي أرسلت أبناءها إلى الخليج ليأتوا بخيرها لأسباب منها العلاقة الحميمة بينهما منذ الأزمنة السحيقة كما تشير إليه المواثيق التاريخية. وقد وصلت حركة الهجرة من الهند إلى الخليج ذروتها في أواخر الثمانينات من القرن الماضي بفعل عوامل اقتصادية واجتماعية سادت وقتذاك في ربوع الهند.
 وكانت لكيرالا الأسبقية في تلك الحركة خاصة للمسلمين فيها لأسباب دينية وسياسية حيث إنهم لاذوا بالهجرة كفرصة ذهبية لتحقيق أحلامهم التي لم تعدو أن تكون ضمان حياة كريمة لهم ولعوائلهم في أغلب الأحيان. وهناك ما يقارب مليونين ونصف مليون من العمال المهاجرين إلى الخليج من كيرالا وحدها. وليس من قبيل المبالغة إن قلت أنه بعيد جدا أن تلق بيتا في شمال كيرالا إلا وواحد أو أكثر من أعضائه يعمل في الخليج ويعول على راتبه الشهري العائلة الكبيرة برمتها.
السرد في الرواية
لعل أول ما نلاحظه  عندما نجلس إلى قراءة الرواية من الناحية الأدبية هو السرد السلس والاقتصاد فيه، حتى ينمو الحدث الروائي من خلال ذلك السرد، وينتهج المؤلف طريقة السرد الإخباري محركا شخصيته الرئيسية (نجيب) ومن حوله شخوص الرواية الثانوية رب العمل (أرباب) وحكيم وإبراهيم القادري والأغنام. ولغة الرواية التي اختارها لحكاية القصة سهلة، وهي خالية من التعقيد الفني في بنيتها السردية. وقد نجح المترجم سهيل الوافي في إبقاء هذه الميزة التي لعبت دورها الفعالة في رواج نسختها الأصلية وشعبيتها المتخطية حدود الطبقات الثقافية المختلفة. 
وذلك أنه يمكن لكل من يستطيع القراءة فهم واستمتاع الحدث الروائي بشكل كلي من دون غموض، ولم يتطرق الكاتب والمترجم إلى لهجة معينة، بل استخدم لغة متوسطة تستوعب جميع أصحاب اللهجات. ولما كان هدف الكاتب إيصال رسالته إلى جيله ووطنه بأكمله، استخدم لغة خالية من التعقيد، أو لأنه كان يريد ان يوسع من دائرة قرائتها، وتمكّن بقدرة احترافية من الجمع بين الفكرة واللغة وفق أسلوب سردي إمتاعي.