كتاب سبر

تركيا… قلب في الشرق وعين على الغرب

تُعتبر تركيا البلد المسلم الجار المِعبر ونقطة الوصل بين الشرق العربي والغرب , وكان لموقعها الجغرافي الأثر الكبير في التاريخ الإسلامي والصراع الإسلامي الصليبي , ولعبت دوراً أساسياً في حاضرنا العربي , فلقد تأسست الدولة العثمانية في عام ألف وخمسمائة وسبعة عشر ميلادية بعد أن إنتقلت الخلافة  لسليم الأول بعد تنازل المتوكل على الله وهو آخر خليفة عباسي. وإستمر عُمر الخلافة العثمانية لأربعة قرون وهي تحكم العالم الإسلامي بسلبياتها وإيجابياتها ,  فلقد بدأت مدافعة عن الإسلام وحكمت العالم الإسلامي بطريقة شرعية في القرون الثلاث الأولى من عمرها ووسعوا رقعة الدولة الإسلامية في كل الإتجاهات وحققوا أنتصارات هائلة ضد الأطماع الصليبية , ولكن في القرن الأخير من عمر الخلافة العثمانية حدثت إنتكاسات مصيرية للأمة الإسلامية على يد السلاطين وذلك لتفرغهم لملاهيهم ونزواتهم وتكثيف الحملات الصليبية على الدولة وتآىمر الدول الأوروبية عليها وفساد المؤسسات الدينية , وبمطلع القرن العشرين تم إسقاط السلطان عبدالحميد وتصدر الواجهة التيار المتحرر والأتاتوركية , وأصبحت تركيا بلداً علمانياً من حيث النظام السياسي. كانت هنالك محاولات لمصطفى أتاتورك لتفريغ تركيا من تاريخها القديم كدولة إسلامية وعلى رأس الخلافة الإسلامية ويلقى بها فى تجربة علمانية جديدة كان لها التاثير الكبير على هويتها الإسلامية.

تسعى تركيا دائماً وبكل طاقتها للدخول بالإتحاد الأوروبي ولا  تُفوّت فرصة ولا حدث إلا إستغلته لتمرير طلبها ورغبتها هذه , ولكنها تُواجَه بالرفض والمطالب التعجيزية من قبل الدول الأعضاء. إن انضمام تركيا للإتحاد الأوروبي يجعلها ثاني أكبر عضو في الاتحاد من حيث عدد السكان بعد ألمانيا التي يبلغ تعداد سكانها الأثنين وثمانون مليون نسمة مقابل تركيا التي يبلغ تعداد سكانها السبع وسبعين مليون نسمة  , وقد تكون تركيا العضو الأول في الاتحاد من حيث عدد السكان مستقبلاً  , وهذا التعداد يُعطي لتركيا الحق في عدد أكثر من الأعضاء داخل البرلمان الأوروبي , ويجعلها من الأعضاء أصحاب القرار والفاعلين فيه وهذا يثير التخوف السياسي عند العديد من دول الإتحاد من أن تتحول القضايا الإسلامية في تركيا إلى قضايا أوروبية وحصول تشريعات إسلامية ومطالب تختلف عن نسيجها العقائدي , وهنالك معطيات كثيرة لهذا التوجه التركي فتركيا على الرغم من النظام العلماني الحاكم فيها لكن صعود التيار الإسلامي لرئاسة الدولة ورئاسة الحكومة يدعو الدول الأوروبية للقلق المُحِق. ترفض دول الإتحاد طلب تركيا في كل مناسبة وتشترط إشتراطات تعرف سلفاً أن تركيا لاتستطيع الإيفاء بها بالإضافة أيضاً أنه هنالك قضية الأكراد في جنوب البلاد وهي قضية تؤرق الإستقرار التركي وهنالك تاريخ دموي بين السلطة المركزية في تركيا وبين الأكراد وحزب العمال الكردستاني بالتحديد فهنالك ما يزيد عن الثلاثمئة ألف شخص لقوا حتفهم خلال الأعوام الماضية حيث خاض فيها حزب العمال الكردستاني قتالا من أجل الحكم الذاتي في جنوب شرق وهنالك تفجيرات وأعمال عنف دائمة يقوم بها حزب العمال الكردستاني داخل الأراضي التركية وهذه القضية لاتروق للدول الأعضاء في الإتحاد الأوروبي . ومما يزيد الطين بلة هو صعود أحزاب يمينية في دول كفرنسا  والنمسا وتنامي المد العنصري في بعض الدول الأوروبية حيث يرفض هؤلاء أي تواجد إسلامي في بلادهم ناهيك عن وجود دولة إسلامية كبرى.

حينما توجهت تركيا لبُعدها الإقليمي والعقائدي وهي الدول العربية والشرق الأوسط في الآونة الأخيرة من خلال تبني القضية الفلسطينية وموقفها من حصار غزة وإسطول الحرية وموقف رئيس الوزراء التركي في قمة منتدى دافوس الاقتصادى وإنسحاب أردوغان من الجلسات بسبب الخلاف مع الرئيس الإسرائيلي بشأن ممارسات الاحتلال في قطاع غزة أصبحت تركيا أكثر أهمية لدي الشرق العربي وأصبحت مواقفها تتناغم مع الوضع العربي والصراع التاريخي الإسرائيلي العربي. لقد قوبِل موقف رئيس الوزراء التركي بترحيب غير مسبوق من قبل الحكومات العربية والشعوب العربية وكأننا نشتّم رائحة النُصرة من أخ ونصيرقد غاب كثيراً عن الساحة, ولكن هل الموقف التركي موقف ثابت ومبدئي ؟ 

إن أساسيات السياسة هي المصالح وهي تتغلب على المعتقدات والمشاعر في عالمنا الحديث فتركيا كبلد وككيان يبحث عن مصالحه الوطنية لايعنيها كثيراً الموقف من القضايا العربية بالقدر الذي يهمها تحقيق تجاذبات تعني بمصلحتها. لاشك أن المواطن التركي وحتى السياسي يقف مع القضية العربية عاطفياً ولكن القضية أبعد من أي موقف عاطفي , والحال أنه حينما تفقد تركيا الأمل في الدخول في الإتحاد الأوروبي فإنها تتجه نحو ساحة أخرى لكي تستطيع تسويق بضائعها وتجد البديل والذي هو أما أن يكون إسرائيل أو الدول العربية أو كلاهما  , ولكن حينما نقارن الدول العربية بإسرائيل ديموغرافياً فإن الدول العربية تملك تعداد سكاني يُضاهي ثلاثمائة وأربعين مليون نسمة , بينما تعداد سكان إسرائيل هو سبعة ملايين ونصف , وهذا يشكل فارقاً كبيراً من حيث التسويق وغيرها لذلك يجب عل الدول العربية أن تستقطب الدولة الجارة المسلمة ذات التاريخ الإسلامي وتقديم تسهيلات وإستثمارات وجذب العمالة التركية , لأنها تعتبر صمام أمان في ظل التجاذبات والتوازنات الإقليمية وعلى تركيا أن تصل إلى نتيجة أنها لاتستطيع أن تتنصل من بُعدها الإقليمي والعقائدي وأن تاريخها ومستقبلها مرهون بالدول العربية والقضايا العربية وإن كانت عينها على الدول الغربية فإن قلبها ينبض في الشرق وإن إستمرار نبضه هو الشريان العربي المُتخم بالثروات الطبيعية الهائلة و أيضاً بالقضايا العالقة.