آراؤهم

الحرمان

يعمد المرء أحيانا كوسيلة لتسلية نفسه وإبعادا عن شعورها بالحرمان إلى اتخاذ وسائل بديلة تجعل ألم الحرمان في حقه أقل تأثيرا فيما لو لم يتخذ تلك الوسائل ، في صغري كنت أحتفظ بصور الألعاب التي لا أستطيع شراءها بل ولا أجرؤ أصلا على طلب شرائها من والدي حفظه الله فأعمد إلى قص صورها من المجلات الخاصة بها وحين يقوم بعض الأطفال في مكان ما من العالم باللعب بتلك الألعاب أكون أنا في بيتنا الصغير الضيق ألعب بصور تلك الألعاب لا بالألعاب نفسها وربما أجدني أشعر بمتعة كبيرة لا أدري هل توازي تلك المتعة متعة اللعب بالألعاب نفسها ؟ لست أدري فلم أجرب !!

الألعاب كانت تسحرني وتسرق عقلي إبان طفولتي فكثيرا ما أتأخر عن المشي مع والدي وإخوتي في السوق والسبب وقوفي أمام محل بيع الألعاب والانهماك في مراقبة تلك الألعاب ولا يفيقني من غفلتي تلك إلا صراخ قد لا يخلو من شتيمة في بعض الأحيان .

ألعاب صديقي في المدرسة “سعد” كانت كفيلة لجعلي أخاطر بالذهاب مشيا على الأقدام من بيتنا الكائن في قطعة خمسة إلى بيت صديقي “سعد” الكائن في قطعة ستة مع خطورة هذا الأمر لمن هو في مثل سني حينها ولا داعي لذكر تلك المخاطر فمن عاصر تلك الحقبة يعي تماما معنى أن يذهب طفل صغير هذه المسافة ماشيا ، تبدأ الاستعدادات بالاستئذان من والدتي حفظها الله والتي من حسن حظي أنها تعرف والدته مما يوفر علي كثيرا من الوقت في إقناع والدتي حفظها الله ، فتقوم والدتي بتجهيز ثوب نظيف ألبسه وكأن أمي تجهزني لتزفني نحو تلك الألعاب بينما هي تريدني أن أبدو بشكل جميل ومرتب أمام أهل “سعد” ، وبمجرد وصولي إلى هناك والتقائي بمحبوبتي تنتابني سعادة غامرة وأشعر بأن الدنيا بحذافيرها قد حيزت لي ؛ كانت أوقاتا جميلة أقضيها مع ألعاب “سعد” منشغلا عن الآخرين بما أتيت من أجله فقط .

كبرت وأصبحت موظفا وأمتلك مالا لشراء أجمل الألعاب ولكن لم يعد لي شغف لتلك الألعاب ولم تعد تناسب عمري أصلا ، ياااااه يا خسارة … دائما الأشياء الجميلة تأتي متأخرة !!

أنظر لولدي عبدالله وأبتسم وأنا أحدث نفسي سأشتري لك أي لعبة تريدها ، المشكلة أنني لا أجد فيه نهما في حب الألعاب كأبيه !!

أحيانا أقول بأن الحرمان من الشيء هو من يجعلك تحبه حبا فوق المتصور وأنك بمجرد الحصول عليه تشعر باللذة تزول رويدا رويدا ، فكل ممنوع مرغوب ، ولو كنت حصلت على تلك الألعاب عند رغبتي بها مباشرة لما كانت لها قيمة عندي .

وقد يكون لهذا الأمر علاج وهو أن تشغل نفسك عن هذا الشيء وتتجاهله حتى يعود رخيصا في نفسك بعد أن كان غاليا ، كما قال المتنبي :

وإذا غلا شيء علي تركته

فيكون أهون ما يكون إذا غلا

وهذه بالطبع لا تكون في حق طفل مولع بحب الألعاب ولكن الشيء بالشيء يذكر .

هناك أشياء أخرى يتعب المرء من أجل أن يتحصل عليها ويبذل الغالي والنفيس من أجلها وما إن تصبح ملكا له إلا ويزهد فيها ، من تلكم الأشياء على سبيل المثال لا الحصر بعض العلاقات بين الجنسين ، فحين يرى الشاب فتاة يعاملها معاملة طفل للعبة يجري خلفها ويحاول أن يمتلكها ومتى ما حصل له ذلك ولعب بها …. رماها خلفه وراح يبحث عن لعبة أخرى .

أهل المعاصي كذلك …. يبذلون ما يستطيعون من مال وجهد لتوفير سبل المعصية لأنفسهم وما إن يقعوا في المعصية وتنتهي لذتهم المزيفة إلا وشعروا بالندم والحزن فقد انتهت اللعبة أو ” جيم أوفر ” .

وأحيانا أخرى أشعر بأن للحرمان فائدة فهو يجعل المرء يعرف قيمة الشيء إذا ما تحصل عليه بعد عناء وجهد ، وهذا الشيء يجعلني أفكر في أن أتعامل مع ولدي عبدالله كما كان يتعامل معي أبي حفظه الله ، وحرمان النفس أيضا يدربها ويعلمها على العيش الضنك لو طرأ لها طارئ كما أنه قد يخرجك ممن قال الله تعالى فيهم ( أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها) ، فقد مرّ عمر بن الخطاب ذات يوم على أحد الصحابة ومعه لحم فقال له ما هذا ؟! قال : يا أمير المؤمنين اشتهيته فاشتريته ، فقال عمر : أوَ كلما اشتهيت اشتريت ؟! أما تخشى أن تكون ممن قال الله تعالى فيهم ( أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها ) .

يبقى الحرمان مهما تكلمنا عن فوائده ومحاسنه أو أضراره ومساوئه شيئا قاسيا على النفس لاسيما إذا صاحبه شعور كبير بالنقص لدى المحروم يشعره بأنه يختلف كثيرا عن أبناء جيله .

دمتم طيبين .

‏منصور الغايب