آراؤهم

(( الجيوش والعروش ))

قبل محاولة فهم السياسية علينا أولاً وقبل كل شيء، قراءة التاريخ كما يجب أن يكون، فمعظم الأنظمة الشرق أوسطية الحالية هي نتاج حقبة الحرب الباردة بين السوفييت والولايات المتحدة الأمريكية وما تطلبته ضرورات تلك المرحلة من وجود أنظمة بوليسية قادرة على صد الاختراق الاستخباراتي السوفييتي والوقوف في وجه الامتداد الأيدلوجي للفكر الشيوعي والتيارات الاشتراكية المدعومة من قبل معسكرات الكتلة الشرقية ، يعني وبمعنى آخر أنظمة انتهت صلاحية حكمها بحكم انتهاء تلك الحقبة التاريخية عَقِبَ انهيار الكتلة الشرقية وتفكك الإتحاد السوفييتي. 

لذا فإن هذه الأنظمة ما إن أدركت حقيقة انتهاء صلاحيتها حتى أقحمت نفسها في الطور الجديد لعهد العروش الجمهورية التي تحاول شعوب المنطقة الإجهاز عليها حالياً ، وقد كان هذا الإقحام نابعٌ من يقين هذه الأنظمة بأن وصولها إلى سدة هذه العروش لم يحظى بأية شرعية أو مصداقية أو تخويل شعبي.

فـ دأبت واستمرت في تجييش الجيوش وتوظيفها سياسياً ودكتاتورياً لضمان بقاء واستمرار ومكوث عروشها إلى أن يرث الله الأرض وما عليها ، فتم لها ذلك بعد أن أسرفت جيوشها في إمعان وإذلال وإذاقة الشعوب كافة أنواع الشقاء والهوان والبؤس طيلة عقود القهر والظلم والاستبداد مقابل منح أمراء الحرب من المرتزقة والأوباش العديد من الامتيازات الخاصة والعامة !

فنتج جراء كل ذلك صورة خلَقتَ نمطاً من التفكير والأداء السياسي، عكس بالضرورة طبيعة العلاقة السائدة بين كل نظام قمعي استبدادي وشعبة ، وكلما طالت فترة بقاء ذلك النظام في سدة العرش ، كلما ترسخ ذلك النمط وتحول من مفردات متفرقة إلى لغة تخاطب وأسلوب تفكير ومن ثم إلى ثقافة سياسية أساسها الخوف والذعر والتملق ، لتتطور بعد ذلك إلى فولكلور سياسي قد تعتقد الأجيال الجديدة بأنه جزء من تراثها السياسي ، وبالتالي لم يجد الُمهيمن الذي أسهم في إيصال هذه الشرذمة من الأرذال إلى سُدة العروش الجمهورية بُداً من التحالُف معها مقابل تعهدها الكامل بالعمل كـ غفر لحماية ورعاية مصالحة على حساب شعوبها ورعاياها التي تحولت إلى مجتمعات خاملة تفتقر إلى الحيوية وإرادة التغيير والسعي للأفضل نتيجة فقدانها لاحترام أنفسها ومؤسساتها الدستورية.   

إلا أنه ومع مرور الزمن والدخول في الطور الثاني لعهد جمهوريات العروش بعد إقصاء المؤسسة العسكرية سياسياً واستبدالها بتجييش الألوف المؤلفة من فقهاء وكتاب ومفكري المؤسستين الدينية والإعلامية للعمل على تسويق تلك المفاهيم المغلوطة حول حديث (السمع والطاعة ولو تأمر عليكم عبدٌ حبشي) وكل ما خلاف ذلك من حُجج ومبرِرات، أي حينما صدق الغفر كذِبة شرعية بقائهم في عروش جمهوريات العهر السياسي ، كان هناك بصيص أمل لا يزال ماثلاً في أعيُن العابرين اللامبالية بالصور الجدارية لخفافيش الظلام التي ملأت الميادين العامة والساحات والطُرقات والمداخل الرئيسية والفرعية حتى غدت جزءاً من الأثاث المنزلي ، فعندما دقت ساعة العمل -على ما قال معمر- لم يكن ذلك نابعٌ من إيعاز المُهيمن الغربي بافتعال الثورة الخلاقة كما يدعي البعض! وإنما كان الباعث متوارياً خلف حقيقتان لا ثالث لهما، الأولى تمثلت في تحرر الشعوب من عقدة الخوف والرعب الانهزامية واستعمالها كأسباب للخوف من عدم تغيير واقعها المرير، أي وبعبارة أخرى أن ثورات الشعوب ضد أنظمة العروش الاستبدادية تعود في أصولها إلى الثورة على النفس للتحرر من جدران وأغلال البطش والفساد التي تستند على الواقع المرعب، والذي خلقته جيوش العروش المستبدة للسيطرة على مجتمعاتها، فما إن أدركت الأجيال الجديدة حقيقة أن الشعوب بالطبع، لا تفنى ولا تموت، حتى قامت بالثورات اللاخلاقة ضد تلك العروش الفانية.

وأما الحقيقة الأخرى والتي تزامنت مع دقُّ ساعة العمل أيضاً ، فقد تجسدت في انتقام الشريك السابق لهذه العروش والأصل الذي تفرعت منه وعمدت إلى الانفصال عنه عندما شرِبت المقلب بتصديق كذِبة إدعاء شرعية خلودها بعيداً عن محاصصة جيوشها التي أمعنت في إقصاءُها السياسي وإِنزالها حيثُ الدرك الأسفل، لتكون في ذات الخندق الموحل والذي أعدتهُ لشعوبها خلال العقود الماضية ، وقد رأينا جميعاً مدى إسهام الجيوش في زعزعة عروش الجحوش في أزمنة وأمكنة مختلفة ، فكان أولها تواطؤ جيشُ العراق وأعقبه انقلاب جيش تونُس ومن ثم حيادُ الجيشِ المِصرِي وانقسام جيش ليبيا وضبابية موقف جيشا سوريا واليمن !

وخُلاصةُ القول فبعد سقوط أقنعة حقوق الإنسان وثياب الديمقراطية الفضفاضة وقبعات العدالة المزيفة للمُهيمن الغربي الذي أسهم وشارك عامداً بالسلاح والمال لتهميشنا وإقصاءُنا خارج الزمان والمكان لنتحول بفضل جهوده الحثيثة إلى قطعان من الماشية تمشي على قدمين لا على أربعة ، علينا جميعاً كشعُوب حرة، العودة إلى النقطة التي ابتدأ المُهيمن منها كتابة تارِيخُنا ليُحدد ويُسيّرُ مصائرنا كما يشاء ويحلو له ، فـ ننسِفُ جميعُ ما كُتِب ونعملُ من جديد على إعادة جمع وتدوين المادة العلمية لتارِيخُنا المُحرف، وأُمه تجهل ماضيها ستظلُ طريق مستقبلُها، فهل من مُدرِك؟

فيصل عمر الهاجري