كتاب سبر

البدون.. من أنتم!

ينضم إلى كتاب سبر الكاتب القطري خالد الجابر، وأولى مقالاته الأسبوعية في سبر


بينما تحمل المراكب على الضفاف الخليجية الفرد وعائلاته من مسقط إلى أبوظبي، ومن الدوحة إلى المنامة و الإحساء والدمام، ومن الكويت إلى البصرة وبر فارس الساحل الخليجي الشرقي في الماضي، كانت سفينة في الضفة الأخرى تنقل مهاجرا اسمه (فولماوث كيرني) من قرية مونيغال (Moneygall) الصغيرة الواقعة في إيرلندا إلى العالم الجديد، وهو ابن صانع للأحذية، وقد استقل إحدى السفن المتجهة إلى أمريكا بعد تعرض بلاده للمجاعة الشديدة في ذلك الوقت، لم يكن لهذا الشخص النكرة أي قيمة لمدة مائة وخمسين سنة إلى أن جاء من أحفاده،وهو الناصع البياض، رجل ذو بشرة سوداء، ومن أصول افريقية كينية، وديانة مسلمة، واسم عربي، تخرج من أفضل جامعة في العالم وأصبح رئيس الولايات المتحدة الأمريكية إلى (2016)! كثيرون من أمثال هذا المهاجر الذي رحل من مدينته الأم إلى أخرى كما فعل أجدادنا في الجزيرة العربية وخارجها، إلا أن الثمرة عندنا كانت مغايرة حيث لايتم الاعتراف بالعديد من أبناء المهاجرين وأحفادهم الذين اختلطت أرواحهم ودمائهم بالوطن وترابه، وظلوا مهشمين، مهملين، مسلوبين من أدناه الحقوق الأساسية التي نتفق عليها جميعا دون اختلاف في الشرق أو الغرب ووقعنا عليها والتزمنا بها باتفاقيات دولية وشرائع دينية وكرامة إنسانية!!


مصاعب الخليج بدأت تظهر بعد تحويل القرى و المدن إلى دول وفرض شروط وقيود وحدود على التنقل والإقامة والعيش على الأرض والانتساب إلى الوطن وتعريف من هو المواطن وتوزيع صكوك المواطنة، ونتيجة لذلك حرمت فئات عديدة من أبناء الأرض الذين ولدوا وترعرعوا وتربوا وتنقلوا فيها من الجنسية الوطنية وحقوق المواطنة وحقوق الإنسان أيضا من قبل العيش الكريم والزواج والطلاق وحرية التنقل والتعليم والعلاج وحتى استلام شهادة ميلاد من المستشفى ليتم الاعتراف بالمولود أو شهادة وفاة من المقابر حتى يتم دفنه! وأصبحت حتى التسمية الغريبة التي تطلق عليهم ليس لها مكان من الصرف والإعراب (البدون)،  وتجمعت كل مآسي هؤلاء في ملف واحد يتم تأجيله سنة بعد الأخرى، وهو يشبه وضع أسماك في حوض زينة يتم التفرج عليها منذ عصر انتهاء الاستعمار إلى اليوم بلا حل؟! إنها عقد البدون معنا وعقدتنا معهم هي مرتبطة بمدى إدراكنا وفهمنا وإيماننا بقيمة الإنسان التي لم يستوعبها ملك ملوك أفريقيا وصرخ قائلا (من أنتم)!!


تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش الأخير (Human Rights Watch) قبل عدة أسابيع،  أشارا أن دول الخليج والكويت بالذات رغم الوعود لم تحرز تقدماً رغم تعهداتها منذ عقود بحل قضية البدون الذين يعيشون في الدولة الخليجية دون الحصول على جنسية أو هوية. وذكر التقرير الذي يستند إلى مقابلات مع أشخاص من البدون ومع محامين وناشطين، أن عددا كبيرا من البدون ما يزالون “في موقع ضعف، من دون حماية، ويعيشون في الفقر” في البلاد الغنية بالنفط ويعتبرون “سكانا غير شرعيين”. وتشكل فئة البدون نحو (106) ألف شخص في الكويت من نسبة المواطنين ( 33%)، وفي الإمارات عشرون ألف شخص من نسبة المواطنين (23%)، في قطر 1200 شخص من نسبة المواطنين (16%)، وفي السعودية سبعون ألف شخص من نسبة المواطنين (73%)، وعددهم الإجمالي في الدول الخليجية ما يقارب (184) ألفا ومائتي شخص طبقا لإحصائية مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين الأخيرة. 


هي مفارقة قدرية بالتأكيد فقد تكون محظوظا إذا ولدت في طائرة تحلق في السماء، أو سفينة تبحر في خضم المحيط متجهة إلى العالم الجديد وحتى قبل أن تستنشق الهواء وتلامس رمال الأرض، سيتم الاعتراف بك كمواطن يتمتع بجميع الامتيازات والحقوق بغض النظر عن أصلك وفصلك ودينك ومذهبك وطائفتك وقد تصبح رئيس الولايات المتحدة إذا تم اختيارك من قبل الناخبين وأثبت جدارتك وأهليتك وقدرتك كما فعل ابن المهاجر (المزدوج) الذي قدم والده (البيسري) من أفريقيا و جد أمه (الطرثوث) من ايرلندا، بينما قد تشترك مع أبناء الوطن في الدين والمعتقد والمصير والدم والعائلة والقبيلة والطائفة والمذهب والجغرافيا والتاريخ الماضي والمصير الحاضر وبناء المستقبل وتكون أحد الناجحين والمتفوقين والقياديين ومع ذلك لا يتم الاعتراف بك وبحقوقك كإنسان؟!


خالد الجابر / كاتب قطري