كتاب سبر

وعاظ التخدير السياسي

التحق علي السند بكتيبة كتّاب سبر مستهلاً معركته الكتابية بقصف مركز على “معاقل الفكر الديني والعلماني”..


وسبر إذ ترحب بالسند فإنها تتعهد بتوفير “الميدان” له ولبقية الزملاء مقاتلي الكتيبة.


 وعاظ التخدير السياسي


يلجأ الكثير من الوعاظ الإسلاميين والعلمانيين إلى تحميل الناس وزر التخلف الذي تعيشه مجتمعاتهم، ويمارسون الجلد في حق هؤلاء الناس الذين هم في غالب الأمر ضحايا لسلطة فاسدة، استطاعت أن تفسد كل شيء في البلاد والعباد، في ذات الوقت يتجنب هؤلاء الوعاظ الحديث عن فساد السلطة إلا بكلام فضفاض.. تبرئة للذمة!


الواعظ الإسلامي يُرجع تخلف المجتمع وفساد السلطة فيه إلى ذنوب أفراده ومعاصيهم، وبُعدهم عن الله، وسوء أخلاقهم، وعدم استقامتهم، فيرسم لهم طريق الخلاص من واقعهم السيئ بالاجتهاد في الطاعات، وترك الذنوب والمعاصي.. عندها فقط يصلح أمر السلطة!


أما الواعظ العلماني، فيكيل الاتهامات إلى عقلية أفراد المجتمع وتخلفهم في الفكر والسلوك، فطريق التغيير عنده يكون بتغيير العقليات، والسلوكيات المتخلفة للأفراد، الذين لا يحق لهم أن يتحدثوا عن انحرافات السلطة، حتى يتخلصوا من تخلفهم العقلي والسلوكي، في مقابل ذلك يتجنب كلا الطرفين الحديث بشكل مباشر وصريح عن فساد السلطة، ودورها في إفساد أخلاق الناس ودينهم، وعقولهم وسلوكهم.


هذا الكلام يجرنا إلى الحديث عن إشكالية “التأثير والتأثر بين الفرد والسلطة” فمن الذي يؤثر في الآخر؟ وهل فساد السلطة هو انعكاس لفساد الأفراد؟ أم أن فساد السلطة وسوء إدارتها هو الذي يوجِد الفساد بين الناس؟!


في البداية لا بد من التأكيد على عدم خلو أي مجتمع من فساد بين أفراده، مهما كان هذا المجتمع صالحا، وسلطته ملتزمة، فالفساد موجود ما دام الإنسان – بكل نقائصه وغرائزه-  موجودا، لكن حديثنا هنا عن تجاوز الفساد للحد الطبيعي بحيث يصبح هو الأصل الذي يتطبّع عليه المجتمع، وربما يبرره ويشرعنه.


هذا التأكيد يجعلنا نفوّت الفرصة على أولئك الذي يجعلون من مجرد وجود الفساد الطبيعي بين أفراد المجتمع ذريعة لوقوفهم في وجه أي دعوات للإصلاح السياسي، بحجة أنه لا بد للمجتمع أن يُصلِح نفسه، ويتخلص من عيوبه ونقائصه، بعد ذلك يمارس الدعوة للإصلاح السياسي، متناسين دور السلطة في تحجيم الفساد ومحاصرة الانحراف.. نعم ربما لا تكون السلطة هي مُنشىء هذا الانحراف في كل الأحوال، لكن مجرد سكوتها عنه يُعد بمثابة الضوء الأخضر الذي يعطيه قبولا بين الناس.. هذا إذا لم تمارس السلطة دورا فعليا في إيجاده ونشره وحمايته كما هو الحال في كثير من الأحيان.


يستدل هؤلاء الوعاظ بالأثر المشهور الذي يقول: “كما تكونوا يولى عليكم”، ورغم أن هذا الأثر لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن في سنده انقطاع، إلا أن معناه – على افتراض صحة سنده – يختلف تماما عن مقصود من يستدل به؛ فهذا الأثر يُفهم على أنه يفترض في السلطة والولاية أن تكون تعبيرا حقيقيا عن إرادة الأمة، بحيث تكون السلطة انعكاسا لهذه الإرادة، بينما لا يكاد يوجد في العالم العربي – الذي أدمن على هذا الأثر – سلطة تعبر بصدق عن إرادة الأمة دون تزييف أو تحريف، فإذا كانت السلطة هي التعبير الحقيقي عن إرادة الأمة فهنا فقط يحق لمدمني هذا الأثر أن يستدلوا به. 


إن التخلف والانحراف الذي تُنشئُه السلطة ينسحب حتى على تفسير النصوص، بحيث تصبح داعمة لهذا الانحراف، بينما يمكن فهم هذا الأثر بأنه يدعو إلى عدم الرضى بالانحراف، فـ (كما تكونوا) في قبولكم وسكوتكم ومتابعتكم للفساد (يوَلّى عليكم) من يسايركم ويقبل بما تقبلون، فهذا النص فيه توجيه إلى عدم الرضى والقبول، وهو مصداق لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “ستكون أمراءُ، فتعرِفون وتنكِرون، فمن عرف بَرِىء، ومن أنكر سَلِمْ، ولكن من رضي وتابع” رواه مسلم، فالإثم والعقوبة على من رضي وتابع – كما قال النووي- وذلك لأنه يكرس الفساد، ويعزز الانحراف، فكان الواجب الرفض والإنكار والتقويم.


إن الذين يستدلون بهذا الأثر، ويتشبثون بالفهم المغلوط له يتجاهلون قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه – في البخاري – عندما سألته امرأة: ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء اللهُ به بعدَ الجاهلية؟ قال: بقاؤكم عليه ما استقامَت بكم أئمتُكم، فعلّق -أبوبكر- استمرار الصلاح في الناس على صلاح الأئمة والأمراء.


إن الفساد إذا عَمّ، وأصبح مُمَنهجا، وخرج عن حده الطبيعي الذي تحتمه الطبيعة البشرية، وأصبح له رُعاة ودعاة، فإن السلطة السياسية هي المسؤول الأول عنه، ولا يمكن تبريره بقابلية الناس له؛ لأن هذه القابلية ستظل موجودة ما دام النقص البشري موجود، والنفوس البشرية لا تنقاد فقط بالوازع الداخلي، فإن الله يزَعُ بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.. كما قال عثمان بن عفان .


لقد أدرك السلف (الصالح!) أن فساد المجتمع هو انعكاس طبيعي لفساد سلطته الحاكمة، فعندما جيء بالغنائم الثمينة من بلاد الفرس ووُضعت أمام الخليفة عمر بن الخطاب، تعجّب من أمانة الجند الذين أوصلوا هذه الغنائم، فقال: إن قوما أدوا هذا لذَوو أمانة، فرَدّ عليه علي بن أبي طالب: يا أمير المؤمنين إنك عففت، فعفت الرعية، كما كتب عمر بن الخطاب في إحدى وصاياه: إن الرعية مؤدية إلى الإمام ما أدى الإمام إلى الله، فإذا رتع الإمام رتعوا.


رجائي أن يكف محترفو الوعظ الديني والعلماني عن جلد مجتمعاتهم، وتحميلها أكثر مما تحتمل، وأن يوجهوا تلك السياط إلى مكانها الصحيح على ظهر السلطة، وأن يدركوا جيدا قول علي بن أبي طالب: الناس بأمرائهم أشبه منهم بآبائهم في التمثيل والتلقي والتقليد.


‏@AliAlssanad